كيمياء الطبخ والخَبْز.. لضبط «ضيوف المعدة»

مفتاح للتوصل إلى أفضل طبخة صحية تقدم إلى «بيت الداء»

TT

حينما أصدرت «شيرلي كورايهر» في عام 1997 كتابها الأول «الطبخ بحكمة: كيف ولماذا الحصول على طبخ ناجح»، لفتت تلك السيدة، المتخصصة بالأصل في علم الكيمياء الحيوية، أنظار الناس إلى الجوانب العلمية في «علم الطبخ».

وقصة السيدة كورايهر مع «علم الطبخ» بدأت بعد تخرجها من قسم الكيمياء الحيوية بجامعة فاندربيلت، بولاية تينيسي الأميركية، في عام 1959، وعملها بعد ذلك في قسم الكيمياء الحيوية بكلية الطب لتلك الجامعة. وكان أن افتتح زوجها آنذاك مدرسة لتعليم الأطفال في أتلانتا، وتولت هي مسئولية طهي الأطعمة لهم، ثلاث وجبات يومياً ولمدة 11 عاماً. ومع توالي السنين، والاستمرار في العلاقة الوثيقة مع «الطبخ» بطريقة صحية وعلمية، أصدرت كتابها الأول، ثم الثاني في العام الماضي عن الأسس العلمية للخَبْز بحكمة.. للخُبز والحلويات وغيرها.

وبما أن «المعدة هي بيت الداء»، فإن العلم لا يجب أن يكون بعيداً عن «ضبط» و«تحسين» الحالة الصحية المفيدة لأهم الضيوف «الذين يحلّون» في «دار المعدة».

وتُؤكد كورايهر على أن ما يجري في عملية الطهي هو تفاعلات كيميائية. وبمعرفة «الشيف» ـ كبير الطهاة ـ لبعض الحقائق العلمية المتعلقة بها، ودواعي حصولها ونتائجها، يمكنه إدراك سبب النجاح في طهي منتج غذائي ما، وسبب الفشل في تقديمه بشكل شهي ولذيذ الطعم. وكلنا يعشق تناول طعام لذيذ، والكثيرون يتمنون لو بإمكانهم طهي أطباق متنوعة بطريقة ناجحة، إلاّ أن قلة من الرجال أو النساء يبلغون مرحلة «طبّاخين ممتازين». وحتى «الطبّاخون الممتازون» يُخفقون ـ في بعض الأحيان ـ في طهي أصناف معينة من الأطعمة بالذات. وحلّ هذه المشكلة لدى كورايهر هو معرفة، ولو قليل، من كيمياء عملية الطهي، لأن علم الكيمياء ـ كما تقول ـ هو مفتاح فهم سبب «ضبط الطبخة» أو «التخبط» فيها.

وتذكر أمثلة عدة، منها أن وضع الأعواد الطرية الخضراء للهيليون (أسبريغس) في ماء يغلي، سبب في انتفاخ الخلايا النباتية بداخلها، وبالتالي تحول لونها الأخضر وقوامها المتماسك إلى أعواد رخوة وذات لون باهت. وإطالة مدة الطهي، يُفتت جدران الخلايا النباتية، ما يُؤدي إلى انكماش حجم الأعواد الخضراء وخروج الأحماض منها؛ وزوال طعمها الشهي.

وتفاعلات كيميائية أخرى تحصل عند وضع قطع من الملفوف الأحمر في مقلاة ساخنة، ذلك أن الحرارة العالية تُفتت اللون الأحمر لصبغات مركبات «أنثوسيانين» المضادة للأكسدة، المسؤولة عن اللون الأحمر في ذلك النوع من الملفوف. وبهذا تتحول هذه المركبات من أحماض إلى قلويات؛ وبالتالي يتحول لونها الطبيعي الأحمر إلى اللون الأزرق. ولذا، فإن إضافة شيء من الخل، المادة الحمضية، يُسهم في الحفاظ على اللون الأحمر، وإضافة «بيكنغ صودا»، القلوي، يُعيد اللون إلى الأزرق. ويُؤيد المتخصصون في كيمياء الغذاء كثيراً من الممارسات التقليدية في إعداد أطباق الأطعمة وتناولها، كإضافة زيت الزيتون إلى سلطات الخضار الطازجة، لأنه يُسهل على الأمعاء امتصاص المواد المُضادة للأكسدة في تلك الخضراوات، وإضافة قطرات من الليمون الحامض إلى قطع السمك المشوي، لتسهيل امتصاص الأمعاء لدهون أوميغا-3 الصحية المتوفرة في المنتجات البحرية.. وغير ذلك كثير.

وبمناسبة الحديث عن الطريقة الأفضل صحياً لعملية الـ «خَبْز»، يُؤكد المتخصصون في كيمياء الغذاء أن الأفضل هو استخدام دقيق البُرّ، أي الأسمر، بدلاً من الأبيض. ومعلوم أن الدقيق الأسمر هو طحين حبّات القمح الكاملة وغير المقشرة، أي الغنية بالمعادن والفيتامينات والألياف. وهي عناصر غذائية هامة، يفتقر إليها الدقيق الأبيض بشدة.

كما أن ترك العجين يتفاعل مع مادة الخميرة لمدة تتجاوز 24 ساعة، أفضل من الاستعجال وعدم إعطاء فرصة للخميرة للتفاعل مع مكونات دقيق القمح وزيادة كمية المواد المضادة للأكسدة في الخُبْز حال تناوله، وكذلك لتقليل وجود مادة «فايتيت» المُعيقة لامتصاص الأمعاء للكالسيوم والحديد وغيرهما من المعادن.

وخَبْز العجين على «نار هادئة» ولمدة أطول، أفضل في إنتاج خُبْز صحي غني بالعناصر الغذائية السهلة الامتصاص، وذلك بالمقارنة بعملية «الحرق» السريع.

وتناول الأجزاء المُحمَّصة بشكل جيد، أي (المُقمَّرة)، على الطبقة الخارجية لقطعة الخُبْز، أفضل من تناول أجزاء اللبّ البيضاء. والسبب أن تعريض الطبقة الخارجية من العجين لتفاعلات عملية «ميلارد» يُعطي ـ بالإضافة إلى النكهة والطعم الأفضل ـ كمية أعلى من النوعية السهلة الامتصاص للمواد المُضادة للأكسدة. وتفاعل «ميلارد» هو ذلك التفاعل الذي يحصل بفعل الحرارة بين البروتينات والسكريات الموجودة في دقيق القمح. وهناك تفاعل آخر يجري خلال عملية الخَبْز، وهو تفاعل «كاراميل»، الذي يجري بفعل الحرارة فيما بين السكريات فقط، الموجودة في دقيق القمح.

إن كيمياء عملية الطهي وعملية الخَبْز تستحق منّا معرفة جوانب عدة منها، كي نُقدم لأنفسنا طعاماً شهياً وصحياً <

* استشاري باطنية وقلب مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض [email protected]