الأجيال الجديدة من الهواتف الجوالة تعيد للإذاعة مجدها في البلقان

آلاف المحطات تتنافس على مساحة 728 ألف كيلومتر مربع تعج بـ70 مليون نسمة

استماع مستمر للإصدارات التكنولوجية الحديثة («الشرق الأوسط»)
TT

حتى وقت قصير اعتبر كثيرون أن عصر الراديو قد ولى، وأن التلفزيون ورث جميع وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة، ثم جاءت الإنترنت لتؤكد تلك المقولة، حيث سحبت اهتمامات الكثيرين كما سحب التلفزيون الكثير من جماهير الإذاعة التي ظلت من أهم المصادر الإعلامية والثقافية والفنية على مدى أكثر من قرن، أي منذ تمكن العالم ماركوني سنة 1901 من إرسال الموجات عبر المحيط الأطلسي وتطوير الموجات القصيرة واكتشاف طريقة استخدام توصيلة البث الأرضي لزيادة مستوى الإرسال في الراديو. وفي 1909 حصل على جائزة نوبل في الفيزياء لاختراعه الراديو، الذي على أساسه تم اختراع التلفزيون. بيد أن قيام أول إذاعة في العالم كانت في بريطانيا سنة 1922.

ثم انتشرت الإذاعات في العالم، وأشهرها هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» و«مونتي كارلو» و«صوت أميركا»، وغيرها. وقال مدير إذاعة «بير» رمزي بيتيتش لـ«الشرق الأوسط»: «إذاعتنا ذات توجه إسلامي، وهي إذاعة معلومات، شجعنا على إقامتها الزخم الكبير الذي أحدثته الهواتف النقالة (الجوالة) التي تحتوي على موجات إف ام وغيرها، وهذا أثبت تلك المقولة التي تفيد بأن الراديو له روح، عكس التلفزيون الذي يصفه البعض بالشيطان».

ويعمل في راديو «بير» 13 موظفا جميعهم أنهوا تعليمهم الجامعي، ويعتقد رمزي بيتيتش أن «إعداد برامج الإذاعة أسهل وأقل تكلفة من التلفزيون»، وذكر أن «محطات الإذاعة في البلقان، الذي تبلغ مساحته 728 ألف كيلومتر مربع ويبلغ عدد سكانه نحو 70 مليون نسمة، تعد بالآلاف، منها أكثر من 150 محطة في البوسنة تتنافس فيما بينها، وتنافس بدورها أكثر من 50 محطة تلفزيونية، وكثير من هذه المحطات غير تابع للدولة وتملكه مؤسسات أو أفراد»، وأوضح أن «لكل إقليم محطة إذاعية وتلفزيونية خاصة به، وأحيانا يوجد ذلك في البلديات» واشتكى من قلة المواد العربية كالأناشيد التي يقبل عليها الشباب بكثرة ضمن ما يسمى بـ«أوريونتالني دوهوفنوست»، إلى جانب أغاني سامي يوسف ويوسف إسلام.

وقد احتفل راديو «بير» بعيد ميلاده الأول في غرة محرم الماضي، وفي 1 مارس (آذار) الجاري أصبح راديو «بير» يعمل على مدى 24 ساعة. كما اشتكى من قلة التمويل، حيث تحتاج محطة إذاعية لما لا يقل عن 250 ألف يورو سنويا. وعن مدى انتشار راديو «بير» في البوسنة، قال: «يستمع إلينا أكثر من مليون وأربعمائة ألف نسمة، ونغطي 8 أقاليم، إلى جانب متابعين عبر الإنترنت، وهم من مختلف أنحاء العالم». واعتبر بيتيتش أن «الراديو يمكنه مواصلة رسالة المسجد، فمنذ فترة أصبحنا نناقش مع الشباب موضوعات خطب الجمعة، وهذا ما لا يتسنى للمصلين داخل المساجد». ومن البرامج التي يقدمها راديو «بير»، وهو الاسم المختصر للمشيخة الإسلامية في البوسنة، تعليم قراءة القرآن عبر الأثير «نقوم بقراءة نصف جزء من القرآن يوميا، ويتابعنا المستمعون من هواتفهم النقالة، ومصاحفهم، وبعد ذلك نجيب على أسئلتهم بخصوص مخارج الحروف وغيرها». وراديو «بير»، ليس خاصا بالمسلمين، بل هناك من غير المسلمين من يتابع برامج الإذاعة، وينقل بيتيتش عن امرأة صربية قولها: «أقوم على صوت إذاعتكم وأنام على صوتها، ومما يعجبني فيها الدعاء والأحاديث النبوية». ويخصص راديو «بير» مساحة من برامجه للرياضة بنسبة 5 في المائة، وللأخبار السياسية والثقافية 20 في المائة، وللشؤون الإسلامية 35 في المائة، وللبرامج السياسية 10 في المائة، وللأطفال 5 في المائة. ويرى وحيد الدين علي هوجيتش، معد برامج، في راديو «كالمان»، الذي يعمل في هذا الميدان منذ 16 سنة، أن «وسائل الإعلام التي عرفها العالم لن ينقرض أي منها كما يزعم البعض، بل سيظل لكل وسيلة جمهورها الذي يزيد وينقص بفعل ظهور وسائل إعلام جديدة، وقبل ظهور الأجيال الجديدة من الهواتف النقالة كان هناك مستمعون للإذاعة». لكنه يعترف بأن العدد ازداد بشكل ملحوظ، ويزيد عن المائة، و«السائق والعامل في المصنع أو المتجر أو المقهى والمرأة العاملة في بيتها لا يمكنهم مشاهدة التلفزيون على مدار الساعة، والتلفزيون مكانه البيت فقط، أما الإذاعة فهي في كل مكان طوال اليوم، وللهواتف النقالة دور في إحداث طفرة أو نقلة إضافية، لا سيما على مستوى الشباب». وعما إذا كانت الطفرة الجديدة تستدعي برامج مختلفة خاصة بالشباب قال: «لا شك أن الوضع الجديد للإذاعة يستدعي تطويرا في البرامج لمساعدة الشباب على فهم أكثر للتطورات، وحتى مساعدته في دراسته من خلال برامج أكاديمية، وليس ملء فراغه بالأغاني والبرامج التافهة». وعما إذا كان ازدياد الإقبال على الإذاعة سيرفع من قيمة الإعلانات، أجاب: «بلى. بدأ دخل الإذاعات يزيد، فقد ارتفعت نسبة الإعلانات في الأشهر الأخيرة».

وقالت المذيعة في راديو «ام ام» ريحانة هرتسغوفاتس لـ«الشرق الأوسط»: عندما ظهر الراديو أول مرة كان ولا يزال أحد معجزات التكنولوجيا، إذ لم يصدق الناس كيف يمكن للصوت الوصول عبر الأثير إلى كل البيوت، وكانت بكل المقاييس معجزة للعقل البشري»، وتابعت: «لكن ذلك سرعان ما اختفى بعد ظهور التلفزيون، ثم الكاسيتات والكمبيوتر والإنترنت والألعاب الإلكترونية، وكاد كثير من الناس ينسون الإذاعة، بيد أن ظهور الأجيال الجديدة من الهواتف النقالة أعادت للراديو زخمه، فأغلب الشباب يستمعون للإذاعة عبر هواتفهم النقالة، لا سيما عندما يكونون في المواصلات العامة أو غرف نومهم».

وحول أجهزة الراديو التي كان يقتنيها الناس للاستماع للإذاعات، ذكرت ريحانة أن «المعلومات المتوفرة حول مبيعات أجهزة الراديو تفيد أن الشركات توقفت عن إنتاج تلك الأجهزة التي أصبحت مدمجة مع أجهزة التسجيل، فهي جهاز واحد، سواء تعلق ذلك بمسجلات السيارات (سي دي) أو الأجهزة المنزلية». وتقر ريحانة بأن المنتوجات التكنولوجية الجديدة أخذت حيزا من اهتمامات الشباب، لكنها لم تقض على الإذاعة، بل هناك من يستمع للراديو عبر الهاتف النقال وكذلك الإنترنت.

وقالت أميرة فوكوليتش (طالبة) إنها تستمع باستمرار للإذاعات، لا سيما أثناء التسوق أو العودة من الجامعة وفي وسائل النقل، خاصة عند ذهابها أو عودتها من البيت الذي يبعد عن الجامعة نحو 350 كيلومتر: «دائما عند التجول أو عند السفر استمع باستمرار للإذاعات»، ولا تخفي أميرة شغفها بالموسيقى، لا سيما الصوفية منها: «أجد راحة تامة عند الاستماع للموسيقى الصوفية، حتى وإن كانت باللغة العربية أو التركية أو الإنجليزية، المهم عندي تلك الأصوات الموسيقية الروحية المنبعثة منها». وقال ميرزا هرتسغوفاتس (طالب): «الاستماع للإذاعة عبر الهاتف النقال ديدن الشباب في هذه المرحلة، فهي موضة تقريبا لدى الأغلبية، ولكن لكل اهتماماته، هناك من يستمع للموسيقى الصاخبة، وهناك من يستمع للبرامج الثقافية الإذاعية، وهناك من يستمع للأخبار عندما لا يكون في البيت، وبالنسبة لي أتابع الأخبار والبرامج الثقافية، وأحيانا أستمع للموسيقى ولكن تلك الهادئة»، وأكد على أن «الإذاعة كغيرها من وسائل الإعلام، فيها المفيد وفيها ما يطلق عليه التلوث السمعي والصخب أحد مظاهره، هو تلوث لا يلقى الاهتمام اللازم من قبل وسائل الإعلام ومراكز الرصد الصحي والثقافي والسياسي وغيرها».

وقالت أنيسة كراسوليتش (خريجة فلسفة عاطلة عن العمل): «أستمع للراديو عندما أكون في السيارة وفي البيت عندما أقوم بكي الملابس أو طهي بعض الأكلات السريعة، وعندما كنت طالبة كان الراديو بهاتفي النقال رفيقي في أوقات فراغي، خاصة عندما أكون في الفراش قبل النوم». وتتذكر ريحانة عندما كانت تقيم في سكن الطالبات قبل بضع سنوات، حيث كان الاستماع عبر هاتفها النقال مصدرها الرئيسي للأخبار، والبحث عن الراحة عبر الاستماع للإذاعة من خلال الهاتف النقال على حد قولها «كان الناس في بداية هذا القرن يتحلقون عند الجيران الذين يملكون جهاز راديو قبل أن يدخل الراديو لكل بيت، وكان الناس في البيت الواحد يختلفون حول ما يستمعون، أما الآن، ومن خلال الهاتف النقال، أصبحت هناك استقلالية، ولكل واحد الحق في اختيار ما يفضله من برامج إذاعية، وفي الأجيال الجديدة من الهواتف النقالة. هناك محطات تلفزيونية أيضا، ولكنها قليلة في البلقان». وتذكر طرفة سمعتها من جدتها، فعندما كانت تستمع للإذاعة في ستينات القرن الماضي أعجبها أحد البرامج فأغلقت الراديو على أن تكمل الاستماع إلى حين تأتي ابنتها، ولما فتحت الراديو مجددا وجدت برنامجا آخر فقالت لابنتها كان هنا قبل أن أغلق الراديو.