سوق «زنقة الستات» بالإسكندرية.. لوحة فلكلورية رسمتها أطياف بنات بحري

يواجه جشع كبار التجار لتحويله إلى «مول» تجاري

سوق «زنقة الستات» بالإسكندرية («الشرق الأوسط»)
TT

«اتفضلي يا عروسة.. تعالي يا هانم.. طلباتك إيه.. طلبك عندنا» نداءات عديدة يطلقها التجار في سوق يأخذ سمة الأسواق العربية القديمة. فالدكاكين تتراص كأنها تتزاحم أو تأخذ برقاب بعضها بعضا، وتتفنن في عرض أجود أنواع الأقمشة والستائر الموشاة بحبات الخرز والترتر، وإكسسوارات النساء لترسم لوحة فنية فلكلورية، تجدد من خلالها اسمها القديم الشهير بـ «زنقة الستات»، علاوة على طابع مميز ونكهة إسكندرية فريدة منحت «الزنقة» طابعا عالميا فريدا حتى أصبح مزاراً لكل عشاق الأصالة وسحر الشرق. فبمجرد دخولك إلى السوق عبر بوابته الحديدية القديمة المطلة على شارع فرنسا بمنطقة المنشية التجارية الشهيرة بسوق الإسكندرية؛ يتراءى لك طيف «بنات» بحري يتجولن بالملاءات الّلف السوداء اللامعة على خصورهن وتزين غرتهن المناديل‏ المطرزة‏ ليتمايلن بدلال بين أزقة السوق.

تتوارى دكاكين «زنقة الستات» خلف الأوشحة الحريرية والقطنية الملونة لتجاري حالة الطلب المتزايدة على الحجاب الذي حل محل الملاية الّلف والمنديل المزركش، بعد أن انتشرت ظاهرة الحجاب بشكل لافت بين فتيات الإسكندرية، واختفى طيف الملاية الّلف الذي أعطى بنات الإسكندرية بريقهن الذي سحر ألباب أدباء وشعراء العالم.

سوق زنقة الستات يشبه المتاهة، حيث يمكن دخوله والخروج منه من عدة أماكن مختلفة. والطريف أن معظم البائعين في «زنقة الستات» من الرجال لكن ذلك لا يثير غضب السيدات، بل يرين أن الرجال يفهمون احتياجاتهن ويبذلون كل ما في وسعهم لإرضائهن ومعاونتهن في اختيار الأفضل لهن.

يتضافر كل هذا العبق مع عمر السوق الذي يزيد على قرن من الزمان، ويردد البعض أن تاريخه يعود لعهد والي مصر‏ ‏محمد‏ ‏علي‏، في حين يعتقد بعض أهالي الإسكندرية أنه أحد‏ ‏آثار‏ ‏‏الحملة‏ ‏الفرنسية‏ على‏ ‏مصر‏، مما يجعل عمر السوق يعود إلى نهاية‏ ‏القرن‏ ‏الثامن‏ ‏عشر، حيث يتداول التجار أنه كان إسطبلا لخيل الجنود الفرنسيين لذا سمي الشارع الرئيسي الذي يحتضن السوق بـ«شارع فرنسا». ‏ويحيط بزنقة الستات‏ ما‏ ‏يزيد‏ ‏على‏ 50 ‏منزلا‏ ‏أثريا‏، كانت مملوكة للتجار اليهود والمغاربة والليبيين والشوام واليونانيين الذين كانوا أعمدة هذا السوق في تلك الأيام الغابرة. ‏يقول‏ ‏الحاج‏ ‏أكرم الشامي ‏أحد‏ ‏تجار‏ ‏الزنقة‏ ‏إن‏ ‏السوق‏ أسسه ‏التجار‏ ‏المغاربة‏ ‏الذين جاءوا للإسكندرية مهاجرين وكانوا يشتهرون ببضائعهم‏ ‏من‏ ‏الأقمشة‏ والسجاجيد والمفروشات‏ والخيوط، وكان اليهود يتاجرون في مستلزمات الخياطة والتطريز، ‏لكن أغلب العاملين بالسوق كانوا مصريين، وبعد الثورة والتأميم تبدل الحال وتملك المصريون هذه الدكاكين‏ وتطورت البضائع لتشمل‏ ‏أدوات‏ الماكياج‏ و‏المناديل‏ المطرّزة‏ ‏بالترتر‏ ‏والنجف‏ والملابس النسائية ذات الألوان المزركشة والحقائب الجلدية والأحزمة ولعب الأطفال. وبرغم ارتداء السوق الطابع الشعبي منذ نشأته وحتى الآن، فإنه لا يفرق بين سيدات الطبقة الراقية والطبقات المتوسطة والفقيرة. فالفتيات والسيدات لا يرضين عنه بديلا لتلبيه احتياجاتهن، وتظل «زنقة الستات» حلماً يراود الفتيات الصغيرات مرتبطاً بدخولهن للقفص الذهبي وعثورهن على فرسان أحلامهن، حيث تذهب العروس لهذا السوق لتجهز نفسها، من الإبرة حتى كماليات حجرة النوم، وكل مستلزمات عش الزوجية السعيد. تقول هدير أحمد سمير (23) سنة: «الزنقة فيها كل مستلزمات الإكسسوار والماكياج والزيوت الطبيعية والأقمشة المطرزة وأقمشة المفروشات والبطاطين والستائر والعطور وأدوات المائدة، وأي عروس لابد أن تجهِّز نفسها من الزنقة لأنها ستحصل على مرادها بأرخص الأسعار، كما أنها ستتمتع باختيار ما يحلو لها وستجد أجود الخامات».

أما السيدة سهام رضا (56 سنة)، فهي تتجول بين المحلات كل عدة أيام لتنتقي لبناتها الأقمشة الجيدة ولوازم بيت الزوجية، فهي ترى أن الزنقة ما تزال الأرخص، كما أنها اعتادت على التجار منذ صغرها حينما كانت تصطحبها والدتها لشراء جهاز عرسها. أما عبد المنعم عبد الدايم صاحب دكان لبيع الخردوات فيقول «الزنقة السوق الوحيد اللي استمر في الإسكندرية بعد ما تبدلت معالم الأسواق القديمة، زي سوق العطارين وسوق العقادين وسوق الطباخين، لكن ميزة دكاكين الزنقة أنها حافظت على طابعها وتوارثها الأبناء عن الأجداد، كمان إحنا الأحفاد عارفين الزباين كويس أوي وعارفين عائلاتهم علشان كده تلاقي الروح الموجودة في السوق مختلفة عن أي سوق تاني». ويوجد في الزنقة مكان يسمى «البيت الأبيض» وكان مخصصا لحل المشاكل والخصومات بين التجار، ويخرج منه المتخاصمون متحابين، وكان رئيسه الحاج سيد راشد الذي ورّث تلك المهمة لابنه من بعده فبات يتولى مسؤولية حل النزاعات. سوق «زنقة الستات» مازال المنافس الأول للأسواق‏ الحديثة «المولات»، حيث يسعى تجار السوق لمتابعة أحدث الصيحات في كل شيء، بل هناك الكثير من محال الملابس تأخذ من تجار الزنقة الأقمشة والإكسسوارات لتقوم بتصميمها وبيعها في صورتها النهائية.

وفي عالم المسرح والسينما، تسللت صورة «زنقة الستات»، وأصبحت مادة ثرية لعدد من الأعمال الفنية التي روجت لها، ومن أشهرها مسرحية «ريا وسكينة» بطولة شادية وسهير البابلي وعبد المنعم مدبولي، وفيلم «زنقة الستات» بطولة فيفي عبده، وفيلم «صايع بحر» لأحمد حلمي. لذا يعج السوق دائماً بالزوار والسائحين من مختلف أنحاء العالم فهو أحد أهم المزارات السياحية بالإسكندرية، لكنه مهدد باستمرار من حيتان التجار ورجال الأعمال الذين يحاولون هدمه وتحويله إلى سوق تجاري عالمي حديث، لكن كبار التجار بالسوق يحاولون التصدي لتلك المحاولات خاصة أن الزنقة تنفرد بوجودها بين عدد من المساجد الأثرية التي تحيط بها وتجسد عظمة العمارة الإسلامية ويرجع تاريخها إلى 140 عاما، وجميعها من المساجد المعلقة مثل الشوربجي وتربانة والخراطين.