مصر: سوق «أثر النبي».. يقاوم الرحيل

-شهد أزهى عصور الصعايدة بالقاهرة

سوق «أثر النبي» الذي شهد أزهى عصور الصعايدة بجنوب القاهرة يقاوم الرحيل إلى خارج القاهرة («الشرق الاوسط»)
TT

سوق «أثر النبي» الذي شهد أزهى عصور الصعايدة بجنوب القاهرة، يقاوم الرحيل، إلى خارج العاصمة المصرية، بعد أن أصبح يعوق، بما يتردد عليه من شاحنات خضار وفاكهة وغلال، خطط التطوير بالمنطقة المزدحمة أصلا بالسكان.

و«سوق أثر النبي» واحد من أشهر سوقين عرفتهما العاصمة المصرية منذ ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، إذ كان الشبان يأتون من الصعيد جنوبا ومن الدلتا شمالا بحثا عن فرص للترقي في القاهرة، وكانت البداية لكل منهم هي: إما «سوق روض الفرج» (شمال العاصمة) بالنسبة للوافدين من قرى الدلتا الفقيرة، أو «سوق مصر القديمة»، الذي أصبح اسمه منذ ستينات القرن الماضي «سوق أثر النبي» (جنوب القاهرة)، وهذا بالنسبة للوافدين من الصعيد الأشد فقرا.

وبسبب ضخامة النشاط الاقتصادي في هذين السوقين التاريخيين نشأ في شمال العاصمة وجنوبها أكبر ضاحيتين من حيث عدد السكان والزحام والتكدس.. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يطلق العامة على ضاحية شبرا اسم «الصين الشعبية»، وهي الضاحية التي كان يمتد أمامها «سوق روض الفرج» القديم، قبل نقله لـ«سوق العبور» على بعد 30 كلم خارج القاهرة.. وكذلك الأمر بالنسبة للضاحية الممتدة أمام «سوق أثر النبي» وهي ضاحية «دار السلام» التي حظيت هي الأخرى بلقب «الصين الشعبية» لنفس السبب، وهو الازدحام بالبشر وسيارات الأجرة وشاحنات الخضار والغلال والفاكهة وحتى مواد البناء، لكن محاولات نقله إلى خارج العاصمة لم تنجح بعد على الرغم من هجرة غالبية تجاره الكبار إلى أنشطة اقتصادية أخرى.

وتناولت السينما ما دار في هذين السوقين من صراع اقتصادي وسياسي واجتماعي في ثلاثينات القرن الماضي، وامتد بعضها حتى يومنا هذا.. منها رحلة الصعود والانهيار لبطل فيلم «الفتوة» عام 1957، وهو دور لا ينسى للفنان الراحل فريد شوقي، وكذلك دور «المعلمة بالسوق» الذي مثلته الفنانة فيفي عبده في مسلسل «سوق الخضار» في 2007، مرورا بمشاهد عديدة ظهر فيها سوق «أثر النبي» و«روض الفرج» في أفلام بالأبيض والأسود والألوان، كفيلم «الهروب» للفنان الراحل أحمد زكي.

«لابد من نقل سوق أثر النبي خارج القاهرة..» هكذا قال مسؤول في مكتب نائب محافظ القاهرة لمنطقة الجنوب، وأضاف: «حين نقل سوق روض الفرج إلى سوق العبور المجهز، بعيدا عن العاصمة أوائل التسعينات، أقمنا مكانه حديقة ومجمعا طبيا ومركزا للشباب وقصرا للثقافة.. لهذا نريد إعادة تخطيط منطقة سوق أثر النبي». وشدد محافظ القاهرة عبد العظيم وزير، على أن تأخير نقل سوق أثر النبي يعوق تنفيذ مشروعات مهمة، منها تطوير المنطقة، وربط المجرى الملاحي بأثر النبي بغيره من الموانئ‏، أو كما قال.. «نقل الأنشطة الملوثة للبيئة والمزعجة للسكان يعتبر من الخطط الاستراتيجية لمدينة القاهرة». لكن عددا من التجار رفعوا قضايا أمام المحاكم للحيلولة دون نقلهم إلى سوق العبور البعيد عن العاصمة.. «هذه القضايا لم يتم الفصل فيها بعد.. إلا إننا كتجار ليس لدينا مانع من الانتقال لسوق العبور في حال وفرت لنا المحافظة محال بديلة، لكن نحن نريد الاستمرار هنا.. كيف يصل إليها الزبائن هناك في سوق العبور».. هكذا يشير التاجر أحمد عبد المجيد، الذي تعود أسرته لمحافظة أسيوط. ومثل كثير من التجار يستطرد التاجر علي عبد المتعال، قائلا: «أنا في الحقيقة لا أريد الخروج من السوق، ليس بسبب التجارة فقط، بل لأنني أمضيت هنا أربعين سنة، ولا يمكن أن أبدأ من جديد في مكان آخر.. أولادي تربوا هنا، وأنا كبرت بجوار أبي هنا». وترجع قصة «سوق ساحل أثر النبي» للنصف الأول من القرن الماضي، حين كان يحمل اسما آخر هو «سوق مصر القديمة»، وتم نقله عام 1960 لمنطقة «أثر النبي» التي سمى باسمها، وتبعد عن المكان القديم بنحو ثلاثة كيلومترات جنوبا، وكان ذلك بهدف إقامة طريق الكورنيش الذي أصبح يربط في الوقت الحالي بين وسط العاصمة المصرية والضواحي الجنوبية.

وحين جرى نقل السوق إلى «أثر النبي» انتقلت معه جميع أنشطته وصراعاته وتوازناته الاقتصادية والسياسية والعائلية، وحافظ الكبار فيه على تأثيرهم في عائلات كبيرة في الصعيد خاصة في أوقات الانتخابات المحلية والنيابية. كما انتقل مع السوق الذي كان مخصصا للخضر والفاكهة القادمة من محافظات الصعيد، سوق الحبوب والغلال الضخم الذي كان قد ألحق به عام 1952 على مساحة 28 فدانا بمصر القديمة. ويقول سيد راضي، الذي ترجع أصول أسرته إلى محافظة أسيوط، والذي كان والده تاجرا كبيرا في سوق أثر النبي القديم.. «كان سوق ساحل مصر القديمة وسوق ساحل روض الفرج، هما المكان الذي تأتي إليه كل السلع والمنتجات الزراعية.. وعن طريق المراكب، كان ساحل مصر القديمة يستقبل منتجات الوجه القبلي، وساحل روض الفرج يستقبل منتجات الوجه البحري.. وبعد نقل سوق روض الفرج خارج العاصمة، أصبحت كل تجارة الحبوب بالجملة، وأغلب الخضروات والفاكهة التي تدخل القاهرة لا مكان لها إلا سوق أثر النبي».

وإلى جانب تجار أهالي مصر القديمة ودار السلام الأصليين، هناك العائلات الصعيدية التي اقترنت أسماؤها بسوق «أثر النبي» وبحل العديد من الخلافات الاقتصادية والسياسة والاجتماعية بمنطقة جنوب القاهرة، ومن هذه العائلات «الصوامعة»، وهم من محافظة سوهاج، وعائلات «جهينة»، و«قصر حيدر» و«القصير» وهم من محافظة أسيوط، وعائلات «همَّام» من محافظة قنا.

ويعتز العديد من مشاهير الصعايدة في القانون والسياسة والاقتصاد بأن آباءهم كانوا أو ما زالوا تجارا في سوق أثر النبي.. وهذا يعني أن عائلاتهم من العصب الرئيسي لأي انتخابات نيابية في ضواحي «مصر القديمة ودار السلام والبساتين والمعادي والمنيل والروضة». وبسبب تغيرات اقتصادية والمستقبل غير الواضح لـ«سوق أثر النبي»، نقل معظم التجار الصعايدة من ذوي الأسماء البراقة أموالهم إلى تجارة العقارات وصناعة الرخام، والاستيراد والتصدير والمطاحن والمخابز، إضافة إلى المشاركة في مشروعات سياحية مستقبلية بجنوب العاصمة.