البوسنة: صنعة تجليد الكتب.. من الشارع إلى ترميم المخطوطات

مصطفى يحييتش: بعض المخطوطات تعود للقرن الرابع وهي كنوز لم تنشر

إقبال عربي على المخطوطات الموجودة في المكتبة والمساعدة في تجليدها («الشرق الأوسط»)
TT

خلت شوارع البلقان تماما من دكاكين تجليد الكتب، بعد أن أصبحت فنا نادرا اقتصر في السنوات الأخيرة على ورش ترميم المخطوطات والكتب القديمة التابعة للمؤسسات الكبرى في الدول البلقانية. بل إن كثيرا من المختصين يؤكدون على أن غياب دكاكين تجليد الكتب يعود لعدة عقود خلت، كما أن ترميم المخطوطات بدأ منذ ستينات القرن العشرين. وقال مصطفى يحييتش، مدير مكتبة «الغازي خسرف بك» التراثية لـ«الشرق الأوسط»: «أصدرنا قبل الحرب ثلاثة مجلدات: الأول سنة 1963 والثاني سنة 1971 والثالث سنة 1991، أي قبل بداية العدوان الذي كان في أبريل (نيسان) سنة 1992، وبعد توقف القتال، شرعنا في نشاطات عدة لحفظ المخطوطات وصيانتها بطرق عصرية، وقد تم حتى الآن إصدار 12 مجلدا بعد توقف. وأشار إلى وجود عشرة آلاف مخطوطة، داخل المكتبة « وكل ما قمنا به هو فهرسة 7300 مخطوطة، والعمل مستمر ومتواصل بكل نشاط، ونحن بصدد طبع المجلد الثالث عشر». وعن أهمية المخطوطات قال: «أهمية المخطوطات تكمن في محورين، الأول كونها تراثا إسلاميا عالميا، فلدينا مخطوطات من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، سواء التي جلبها الأتراك إبان الخلافة العثمانية أو تلك التي أوقفها العلماء وطلبة العلم من البوسنيين أو من المسلمين الذين كانوا يزورون البوسنة والهرسك في العهد العثماني وما بعده، فقد كان الطلبة البوسنيون في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، خاصة في إسطنبول، ينسخون المخطوطات ويأتون بها إلى البوسنة، وهي من مختلف صنوف المعرفة، وبعض المخطوطات وصلت إلى البوسنة عن طريق الحجاج الذين يذهبون لأداء المناسك ويمرون بأقطار إسلامية شتى. وكان بعضهم يهتم كثيرا بالمخطوطات ويقتني منها ما وسعه من وقت ومال وبضاعة، وكان للتجار دور في جلب الكتاب للبوسنة والهرسك».

وعن أقدم المخطوطات قال: «بعض المخطوطات تعود للقرن الرابع والخامس الهجريين، وهي كنوز عظيمة لم تكتشف بعد في عالم النشر، ولدينا مخطوطات من مختلف أنحاء العالم الإسلامي من مشرقه ومغربه، ولدينا المخطوطات القديمة والجديدة». وحول الإقبال على تحقيق المخطوطات وتجليدها سواء من داخل البوسنة أو خارجها، أشار إلى أن «أساتذة الجامعة، خاصة من كلية الدراسات الإسلامية، ومن كلية الاستشراق واللغات الشرقية، وكلية الفلسفة في سراييفو، ومن معاهد مختلفة في البوسنة، ومن بعض الكليات بيوغسلافيا السابقة، يأتون للمكتبة لتحقيق بعض المخطوطات والقيام بدراسات مختلفة».

وعما إذا كان هناك إقبال عربي على تحقيق المخطوطات الموجودة في المكتبة أو مساعدة في تجليدها، ذكر أن هناك اتصالات مع جهات عربية في هذا الخصوص، مضيفا: «كان لنا اتصال بوزارة التربية بالكويت قسم المكتبات الإسلامية، وزودناهم بصور من المخطوطات في مادة الفقه حسب طلبهم في ذلك الحين، كما زارنا باحثون وأساتذة من المملكة العربية السعودية، وقاموا بتصوير بعض المخطوطات وأخذوها معهم، وأتتنا طلبات من السعودية، كما جاءتنا طلبات من الأردن ومصر وحتى من فلسطين». وواصل: «طلبوا المخطوطات التي تعنى بالتجويد، ومخارج الحروف، وكان الطلب واردا من جامعة بير زيت. ربما للاستفادة منها في تدريس كتبهم، أو لغتهم أو لشيء آخر».

وعن كيفية الحفاظ على هذا الكم الهائل من المخطوطات كل هذه السنوات، وكيف كان وضعها أثناء الحرب؟ قال نصرت عديلوفيتش: «أنتم تعرفون أن الصرب أحرقوا المكتبة الوطنية في سراييفو سنة 1992 ومكتبة لمعهد الاستشراق، حيث أحرق الصرب أكثر من خمسة آلاف مخطوطة كلها ضاعت، وفي المكتبة الوطنية أحرقوا أكثر من مليون كتاب، لكن في مكتبة «الغازي خسرو بك» كان الوضع مختلفا نسبيا، على الرغم من التلف والحرق الذي أصاب جزءا منها. ففي أبريل (نيسان) سنة 1992 نقلنا المخطوطات من المبنى القديم، ثم نقلنا الكتب، ثم تكررت عملية النقل من مكان إلى آخر ثماني مرات». وعن مكتبة «الغازي خسرف بك» ومستقبلها، أشار إلى أنه «تم ترميم المكان الذي تقع فيه المكتبة حاليا بمساعدة البنك الإسلامي للتنمية بعد زيارة الدكتور أحمد محمد علي لسراييفو. وإلى جانب جناح المخطوطات، وعددها عشرة آلاف مخطوطة، هناك 20 ألف عنوان تقريبا، ولدينا أرشيف الوثائق التاريخية المتعلقة بالفترة العثمانية في البوسنة والهرسك، وعدد الوثائق تقريبا 5 آلاف وثيقة، ولدينا مجموعة الوقفيات وعددها 1400 وثيقة، ومجموعة سجلات المحكمة الشرعية بسراييفو وعددها 86 سجلا، وهذا ما يخص الأرشيف. وعندنا مجموعة من المطبوعات باللغات الإسلامية، وأكثرها العربية، وهي السمة الغالبة على مخطوطات المكتبة، وهي من مختلف العصور، أما التركية فهي محدودة بحدود زمن الخلافة وهي في التاريخ والأدب، أما الفارسية فهي في مجال الأدب الكلاسيكي، خاصة دواوين الشعر، ولدينا مجموعة المجلات والجرائد البوسنية كاملة، وهي تعود إلى القرن الثامن عشر، ولم تتوقف إلى اليوم.

وهناك أرشيف كامل منها يحتوي على كم هائل من الجرائد والمجلات البوسنية التي كانت تكتب بالحروف العربية، ثم بعد الاحتلال النمساوي كتبت بالحروف اللاتينية، وبعد الحرب العالمية الأولى وخروج النمسا خضعت البوسنة والهرسك للحكم الصربي، فدخلت الحروف البيزنطية إلى جانب اللاتينية، ولدينا أيضا مخطوطات بالإنجليزية والفرنسية، ومجموعات من الصور القديمة جدا والنقود والطوابع والبطاقات البريدية القديمة، إضافة للوحات الزيتية القديمة. كما يوجد بالمكتبة جناح للخرائط القديمة وجغرافية العالم السياسية والديمغرافية في عصر الإمبراطوريات العظمى». أما عن إدارة المكتبة، فقال: «المكتبة من المعالم الإسلامية التابعة للمشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك التي تقدم رواتب الموظفين الخمسة عشر، وتدفع مصاريف المكتبة».

من جهته قال الدكتور كاظم حجي ميليتش، الأستاذ بمعهد الفنون وبكلية الفلسفة لـ«الشرق الأوسط» إن: «عملية ترميم اللوحات والكتب جزء مهم من ترميم الذاكرة الفنية والثقافية للمسلمين وتاريخ الفن الإسلامي، فالجذور مهمة في أي عمل ثقافي مؤسسي». وأكد على أنه يولي ذلك اهتماما كبيرا، لا سيما في مجالات ترميم اللوحات والكتب القديمة، وبعضها مذهبة، أي لها حواف من ذهب وعناوين مذهبة أو زخارف أو ما إلى ذلك، وهو جزء من الفن الإسلامي وتاريخه، فبعد ترميم الكتاب يتم تغليفه وتجليده ليبدو جديدا، لكن آثار الترميم والتجديد تظل بادية للعيان.

ومن بين الكتب التي وجدناها قد حظيت بعناية الباحث المبدع، كتاب عن منطقة، ستولاتس، بالجنوب البوسني يحصي عديد السكان والمنازل، بل عدد الحيوانات، بما في ذلك عديد الداوجن. وسبب العناية بكتاب قديم وإحصاءات قديمة، قال: «نريد أن نبرهن على أن فن الإحصاء، وبدقة غير مسبوقة، عرفه المسلمون قبل غيرهم، كما يفيد الباحث في معرفة طبيعة الحياة بأشكالها المختلفة في مرحلة مهمة من تاريخنا». ولا يكتفي الدكتور حجي ميليتش بترميم الكتب واللوحات، بل يضيف عليها «الابرو»، وهو نوع من الزخارف التي تضفي أشكالا جمالية إضافية على اللوحة.