في البلقان.. تقاليد صناعة القهوة مستمرة

مقهى عمره 300 عام يزوره السياسيون والمشاهير

العم فخر الدين أثناء إعداد القهوة في متجره («الشرق الاوسط»)
TT

عندما تتجاوز الباب الثاني لسور، جامع الغازي خسرف بك، في سراييفو، وتحديدا عندما تصل حنفيات المياه العذبة في نهاية السور، يستقبلك شارع فرعي، وتبدو لك مكتبة صغيرة تبيع المسابح والمصاحف والكتب الإسلامية والتحف وغيرها. وما إن تسير خطوات قليلة في ذلك الشارع الفرعي، حتى تستنشق عبق القهوة، كما لو أنك لم تشم رائحتها قط. وإذا ما اقتفيت أثر تلك الرائحة فتصل بك قدماك إلى محل العم خير الدين بوراك، وستعود بك المشاهد إلى ما يزيد عن 300 سنة خلت. وذلك قبل ظهور ماكينات طحن القهوة الحديثة، أي عندما كانت القهوة تدق دقا، أو تطحن بالطرق العتيقة، حيث تستخدم عصا حديدية ذات رأس ثقيل في دق القهوة التي توضع في تجويف صخري (مدق) لا يأتي عليه الدهر. أما العصا الحديدية فيطلق عليها «يد المدق». ويلاحظ الزائر وهو يقف في الجهة المقابلة لمدخل هذا المحل الصغير عبارة للكاتب، زوكو جمهور، وهو كاتب مشهور في البلقان، تتحدث عن القهوة التي تعبق رائحتها في أكناف المكان «هذه القهوة معدة على طريقة الدق، يشربها من يقدر الجودة ويعشق التقاليد»، بينما يقف وراء منضدة شيخ وقور هو العم خير الدين الذي مضى من عمره 62 عاما، لكنه يبدو أكبر من ذلك، رغم ابتسامته العريضة التي يستقبل بها زوار محله، وسخائه غير المحدود، فمن يزوره لأول مرة يهديه كيلوغراما من القهوة المدقوقة أو المطحونة على الطريقة العتيقة. وقال العم خير الدين لـ«الشرق الأوسط»: «كان لدي مقهى في منطقة فراتنيك، وهي المنطقة التي أنشأها العثمانيون وأحاطوها بالأسوار ثم أنشأوا العديد من الجسور على نهر ملياتسكا، وتوسعوا في المعمار حتى أصبحت سراييفو في ذلك الوقت من أفضل العواصم الأوروبية وأكثرها مدنية، في أثناء العدوان على سراييفو، ركز التشنيك الصرب، (التشنيك هو الاسم الذي أطلقه النازيون الصرب على أنفسهم منذ الحرب العالمية الثانية)، على منطقة فراتنيك، وأثناء قصف الأحياء المدنية دمر المقهى الذي كان ملتقى النخبة ومحبي التقاليد، والسياح، كما كانت تحظى بزيارة كبار المسؤولين وكبار زوار سراييفو من مختلف الدول، سياسيين وأدباء ورياضيين وغيرهم». ويتابع خير الدين مسترسلا في ذكرياته «بعد نهاية الحرب قدم لي المجلس البلدي هذا المحل كتعويض عن فقدي للمقهى».

وعن مواعيد العمل أشار إلى أنه يفتح محله منذ الساعة السابعة صباحا ويظل به حتى الساعة العاشرة مساءً، حيث يقوم بتحميص القهوة ومن ثم دقها وتستغرق العملية نحو الساعة «عملية التحميص تستغرق بين 25 دقيقة ونصف الساعة وكذلك عملية الدق أو الطحن»، وعما تختلف فيه القهوة المدقوقة أو المطحونة على الطريقة العتيقة عن غيرها قال «هذه القهوة لها عبقها الخاص، ولها مذاقها المختلف، ولها خاصيتها المميزة». ولا يكتفي العم خير الدين بالشعارات بل يقدم لضيفه القهوة جاهزة ليؤكد أنه على حق، وكانت التجربة في صفه، بل أبلغ من وصفه، فمن ذاق، ليس كمن سمع أو قرأ. وعن أهم زبائنه قال «الأتراك في مقدمة زبائني، فهم يأتون في مجموعات سياحية، وكل فرد يشتري كمية من القهوة للاستخدام الشخصي وللإهداء». يتحدث العم خير الدين عن الأيام الجميلة في مقهاه القديم، حيث «كانت تمتلئ بالزبائن ولا سيما بعد صلاة الجمعة»، وهو إلى جانب إعداد القهوة يبيع أيضا حلوى، راحة الحلقوم بالفول السوداني، والمكسرات الأخرى، وحلوى ملونة يستخدمها مسلمو البلقان في المناسبات، كالختان، واحتفالات الحج، أو الاحتفالات بالمواليد الجدد. ولا يعرف الحاج خير الدين سر وضع 9 إلى 11 قطعة من الحلوى في الكيس الواحد «هذه تقاليد ورثناها ولم نسأل عنها آباءنا وربما لم يسألوا عنها أجدادنا ولكن لا بد أن لها مغزى». ومن بين زوار العم خير الدين، جاك روك رئيس اللجنة الأولمبية وسفراء الدول الغربية في سراييفو، كما زاره الكاتب اليوغسلافي الشهير ايفو أندريتش الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1962. وذلك في 12 يونيو (حزيران) 1974. وهو سعيد بعمله خاصة حين يقوم زواره بتقليده ويقومون بأنفسهم بعملية دق القهوة. يقول خير الدين إن بعض زواره من الشخصيات الشهيرة يسألونه دائما عن سر احتفاظه بتقليد صنع القهوة على الطريقة القديمة.

وفي رده على سؤال بخصوص اكتفائه بمحل صغير، وعدم التفكير في فتح شركة والترويج لقهوته في الخارج قال «أخشى من قيام البعض بانتحال الصفة وترويج قهوة مغشوشة على أنها مدقوقة، لذلك أريد من الزبون أن يشاهد بنفسه العملية ويشتري وهو على يقين من طريقة إعداد القهوة للطهي وبشكل مباشر».

وذكر العم خير الدين بأنه يعد 15 كيلوغراما من القهوة يوميا، حيث يساعده ابنه مفيد (32 سنة) أما ابنه روسمير (35 سنة) الذي كان لاعبا مشهورا في نادي جيليو بسراييفو فهو بعيد عن صنعة أبيه وأجداده التي تعود إلى أكثر من 300 سنة خلت، على حد قوله. ويعتقد بأن مهنته ستبقى في المستقبل وسيكون لها رواج على أكثر من مستوى. لا سيما أن هناك أفكارا حول تجميع الصناعات التقليدية في مركب سياحي لتعريف الزوار بتقاليد البلد وتراثه الثقافي، فيطلع السائح وقبل ذلك الجيل الجديد، على المعالم الثقافية كلها في مكان واحد من دون حاجة للتنقل من مكان لآخر. كما أن ذلك يحافظ على الصناعات التقليدية المهددة بالانقراض.