الفن التشكيلي في البلقان ينوء تحت أثقال الأزمة الاقتصادية

ينتظر فصل الصيف والسياح ورجوع أهله من المنفى

نرمينا لوكاتش: لا يحملني على مواصلة هذا العمل سوى حب الفن. ومنذ ثلاثة أشهر لم أدفع إيجار المعرض («الشرق الاوسط»)
TT

يعد الرسم من أقدم أشكال التعبير الإنساني في التاريخ، وقد سبق عصر الكتابة، ورافق تطور الحضارات، وأسهم في بلورة الحياة التي سادت في ظلها، كما أسهم في هدم المعرفة عندما تحول في كثير من الأحيان من وسيلة حسية للتعبير الإنساني، إلى هدف غنوصي، كعبادة الصور والتماثيل. ويرى البعض أن العصر الذهبي للفن التشكيلي، وللرسم عموما قد تراجع كثيرا، منذ النصف الثاني للقرن العشرين، ولفه ـ مثل غيره من الأشياء ـ عصر السرعة الذي أحال الرومنطقية وكل ما هو كلاسيكي إلى أثر بعد عين. ولا يزال الفن التشكيلي يصارع من أجل البقاء، ويتحول في كثير من الأحيان، كما هو في البلقان، من كونه تجليات لأعماق الفنان، إلى مجرد مورد للعيش، حتى وإن حاول البعض نفي ذلك عن نفسه، وإعرابه عن إخلاصه لروح الفن. وقالت نرمينا لوكاتش، 48 سنة، لـ«الشرق الأوسط »، التي تعلمت فن الرسم في روتردام بهولندا «أمارس هذا الفن منذ 25 سنة، وقد ملك عليَّ شغاف قلبي، ولا أستطيع الحياة بدون اللوحة والريشة، فالرسم أفيون الفنانين، لا يستطيعون العيش بدونه». وعما إذا كان عائد معرضها يغطي تكاليف الحياة في هذا العصر كثير المتطلبات، قالت «لا يحملني على مواصلة هذا العمل سوى حب الفن. ومنذ ثلاثة أشهر لم أدفع إيجار المعرض».

وعما إذا كانت نادمة على تركها لهولندا، وعودتها إلى سراييفو، بسبب أن مبيعاتها هناك تفوق ما تحصل عليه في مسقط رأسها، قالت «لما عدت إلى سراييفو مع زوجي وأبنائي منذ عدة سنوات، لم نفكر في هذا، كنا نفكر في العودة إلى مسقط رأسنا وحسب. هنا بلدي، وهنا فتحت عيناي على الدنيا، وهنا أفضل ذكرياتي، وقد انعكس ذلك على الكثير من رسوماتي».

وعن أسباب تراجع الاهتمام بالرسم، وبالتالي انخفاض عائدات الفنانين الذين يعيشون من هذا العمل، أشارت إلى أن «العولمة وصعود قيمة السيولة النقدية، وارتفاع تكاليف المعيشة، غيَّرت النظرة إلى الفن تبعا لذلك، حيث أصبح كل شيء خاضعا لمقياس السرعة، فالناس اليوم يقبلون أكثر على ما يُحَضَّر (بتشديد الضاد وفتحها) في أسرع وقت ممكن، ولم يعد مقدار الوقت الذي يُقضَى في إعداد الأشياء، كاللوحات مثلا، قيمة مضافة، وإنما أصبح شكلا من أشكال الكلاسيكية التي تم تجاوزها». وتابعت «ثم جاءت الأزمة المالية العالمية لتقضي على ما تبقى من هوامش كانت أعمدة الثقافة في جميع الحضارات والحقب، بما فيها عصر التنوير الأوروبي، الذي اعتمد بشكل بارز على الرسم والفن عموما».

وذكرت بأنها تدفع إيجار المعرض بما يوازي 375 يورو شهريا، وهي تفكر في إغلاق معرضها، إذا لم يتحسن الوضع وترتفع المبيعات بما يغطي تكاليف الإيجار، ويحقق بعض الأرباح التي توفر بعض احتياجات عائلتها. ويركز الرسامون في البلقان في لوحاتهم على المعالم التاريخية التي تجذب المحليين والسياح.

ففي البوسنة يركز الفنانون على الجسور والمساجد والمباني التاريخية، كالمنازل العتيقة، وطريقة الحياة في الماضي بأدواته، وملابسه، ونفحاته العاطفية، ورومنطقيته الطاغية. ولا تخلو تلك المعالم من أعمال الفنانين التشكيليين على طريقتهم الخاصة، خوفا عليها، أو خوفا منها، أو مزجا بين هذا وذاك.

كما لا تخلو أعمال الفنانين من لوحات تصور أدوات استخدمها القدامى وظلت في الذاكرة، كما لو أن الفنانين يوثقون لتلك الحقب من خلال لوحاتهم. وإلى جانب ذلك، هناك اهتمام كبير من قبل الرسامين في البلقان بالطبيعة وصور الخيول الجامحة، أو تلك التي رُسمت في لحظة انسجام غريزي فريد.

وقال الفنان الكرواتي شيفكو هوسيتش، 51 سنة، لـ«الشرق الأوسط»: «أعمل في هذا المجال منذ 30 سنة، وقد عشت التغييرات التي شهدها فن الرسم منذ عصر النهضة». وتابع «الرأسمالية لا تعجبني، فهي لا تهتم بالثقافة، وأصبح الناس يقيمون اللوحة بحسب مساحتها، ووفقا لمقاييس الرأسمالية ومعايير العقار». ومضى يقول «المثقفون الذين يحبون فن الرسم في أزمة مالية، والذين يملكون المال أكثرهم غير مهتمين بالفن أو الشعر المرسوم على اللوحات، كما قيل منذ بداية القرن العشرين، وحتى عقود قليلة مضت». وذكر أن كل صورة لها تاريخها، وإنْ كان هناك تأثير للسوق على عمل الفنان. ويلاحظ المرء وهو يتنقل من معرض إلى آخر في منطقة البلقان غلبة لوحات المعالم التاريخية على غيرها من اللوحات في الكثير من المعارض. ويرى هوسيتش أن ذلك يعكس قلق الفنانين على الموروث الثقافي الذي تعرَّض للتدمير أثناء الحرب في البلقان. وهناك من رسم تلك المعالم، ومنهم هوسيتش نفسه في أشكال متكسرة، أو كأنها أشجار في مهب الريح، أو آثار عمران بعد زلزال شديد. ولا يخفي هوسيتش أن الحركة السياحية التي تشهد نموا مضطردا في المنطقة أسهمت بدورها في اختيارات الفنان للوحاته، فإذا كانت المعالم التاريخية تمثل إرثا ثقافيا بالنسبة للمحليين، فإن السياح يرونها أفضل ذكرى يمكن الاحتفاظ بها بعد عودتهم إلى بلدانهم من البلقان. ولهذا السبب يرى هوسيتش أن «أفضل الرسومات هي التي بعتها». ومع ذلك، فهو يطمح للابتكار، ويجد نفسه مكتوف اليدين بسبب حاجته إلى المال «جسر موستار رسمته أكثر من 400 مرة، وهذا تكرار يأنفه الفنان»، واشتكى من كثرة الزوار الذين يأتون للمشاهدة وحسب، حيث يأخذون الكثير من وقته الذي يمكن أن يستغله في رسم لوحات جديدة داخل الورشة في الطابق الثاني من المعرض. وحول ما إذا كان الفنان في القرن 21 قد تحول من رسم انطباعاته العميقة في لوحاته، أو رسم انعكاسات الواقع الموضوعي داخل ذاته على لوحاته إلى رسم ما يطلبه الجمهور، قال هوسيتش «الرسم يعكس نظرة إلى الحياة، وهو يختلف، لا محالة، عن التصوير بالكاميرا. والنظرة إلى الحياة من خلال الرسم تعطي للصورة روحا جديدة». وعن مبيعاته، قال إنه يبيع لوحة كل يومين، معتبرا فصل الصيف أفضل الأوقات، بسبب زيادة عديد السياح، وعودة الكثير من المهاجرين من الخارج. الفنان إبراهيم هيرلي، 50 سنة، يختلف عن غيره من الفنانين، فالمرأة تطل برأسها، وأحيانا بكامل جسدها في أطراف لوحاته، كبصمة خاصة به. وعن ذلك يقول «الناس يحبون الثقافة والتاريخ. وهناك من يرغب في الرسومات التي تبرز المروج والزهور، والمرأة كل ذلك جميعا، فكل المبدعين الرجال هم أبناء نساء، وعندما أرسم امرأة تطل على اللوحة، فإني أشير إلى امرأة ما تقف وراء النجاح، قد تكون أما، أو أختا، أو زوجة، أو ابنة». ولا يشتكي هيرلي من عدم الإقبال على لوحاته، «إذا مر أسبوع بدون أن أبيع شيئا، فإن الأسبوع الذي يليه يأتي برزقه». وعن نوعية زبائنه قال «كل الناس يعرفون ما معنى الفن، سواء كانوا محليين، أم أجانب». ولا تختلف وجهات نظر الفنانين حول طبيعة الفن، وطريقة التعبير فحسب، وفق المدارس التاريخية في الفن التشكيلي، التي كانت صدى للأحداث والتطورات التي عرفتها أوروبا، كالحروب، والتقدم التقني، وروح النقد للأشكال القائمة، والابتكار الذي لا يعرف الحدود، عن طريق الاستيعاب والتوسع، بل في أسعار لوحاتهم.. فهي تتراوح بين 150 و750 يورو للوحة الواحدة. وكغيره من الفنانين، يؤكد هيرلي على أن لوحاته من صميم إبداعه، ولا يخضع للتأثير، سواء من قبل الزبون، أو غيره من الفنانين. ويعترف بأنه كثيرا ما ترك صورة دون أن يكملها، لتداخل الكثير من الأفكار التي لم يرجح لديه إحداها على الأخرى.