مقهى هافيلكا.. تاريخ حي وتقاليد راسخة في قلب فيينا

ألفه النمساويون وأحبوه عبر ثلاثة أجيال

لكل عاصمة مقهاها الأشهر الذي يحظى بمكانة تاريخية عريقة لا ينافسه فيها مقهى آخر («الشرق الاوسط»)
TT

إن كان لكل عاصمة مقهاها الأشهر الذي يحظى بمكانة تاريخية عريقة لا ينافسه فيها مقهى آخر، فإن مقهى هافيلكا، في العاصمة النمساوية فيينا، يعدّ المقهى الذي يزينه تاج يفوق كل التيجان التي تزين رؤوس المقاهي الأخرى.

إنه صاحب المكانة الأبرز، بالرغم من شهرة الـ«كافيه لاندمان» الذي عرف خاصة إبان أيام الحرب الباردة، وكان ملتقى الجاسوسية بين المعسكرين، وحاليا أصبح المقر المفضل للسياسيين والصحافيين، لموقعه الممتاز قرب مقار الأحزاب، أو الـ«كافيه سنترال» وهو جزء من قصر عريق، ويمتاز بمطبخه الذي يقدم أصنافا من أشهى الأطباق النمساوية، أو الـ«كافيه دمل»، المقابل لقصر الهوفبورغ الإمبراطوري، مقر الرئاسة حاليا، وهو المقهى الذي كان من عادة الإمبراطور وسيدات الأسرة الحاكمة زيارته عصر كل يوم للاستمتاع بقهوته وحلوياته، وما زال محافظا على تقاليده، حتى أن «فترينته» (واجهته الزجاجية) الرئيسية تعتبر لوحة تكشف عن أشهر نشاط تشهده المدينة، بحيث تعرض حلويات على شكل تماثيل تشير إلى المناسبة.   بالأمس، احتفل مقهى هافيلكا العريق البسيط بعيد ميلاد مؤسسه ليوبولد هافيلكا الثامن والتسعين. وكعادة المقهى العريق، جاء الاحتفال متواضعا شاركت فيه أجيال المقهى الثلاثة: الأب المؤسّس ليوبولد، وابنه المدير الحالي للمقهى غونثر، 69 سنة، وابناه ميخائيل 37 سنة، وامير 27 سنة. وكلاهما يمثل بالإضافة لخمسة أشخاص آخرين فقط كل القوى العاملة في المقهى الشهير، في حين تغيبت عن الاحتفال الأم جوزفين الوجه المعروف للفيينيين... التي ظلت تدير المقهى مع زوجها منذ افتتاحه في مايو (أيار) 1939 وحتى وفاتها في مارس (آذار) 2005. ويعتبر النمساويون من زوار الهافيلكا السيدة جوزفين صاحبة أشهر فطيرة ألا وهي فطيرة «البوختلن» المصنوعة من خلطة سهلة للدقيق مع الخميرة والبيض، بحيث «تنتفش» وتصبح رخوة، وتقدّم وبجانبها فواكه مطبوخة خاصة المشمش والبرقوق. وكانت جوزفين قد دأبت على خبزها وإعدادها يوميا لتقدّمها لزبائن المقهى طازجة شهية، منذ موعد الافتتاح في الثامنة صباحا وحتى موعد الإغلاق في الثانية صباح اليوم التالي، طيلة أيام الأسبوع ما عدا الثلاثاء،... اليوم الوحيد الذي خصّصته الأسرة لراحتها منذ الثلاثينات ولا يزال. شهرة الهافيلكا جاءت من قدم المقهى واحتفاظه بالشكل ذاته، واستمراره في تقديم خدماته رغم كل التقلبات الاقتصادية والسياسية، إذ أنه لم يغلق أبوابه الا عندما اشتد أوار الحرب العالمية الثانية. ثم عاود العمل بقيادة ليوبولد هافيلكا وجوزفين وكلاهما أكثر استبشارا، بعدما خرج المقهى من الحرب سليما لم يصبه الدمار رغم موقعه في المنطقة الأولى، بشارع دروثيم، في قلب المدينة. وهو ما ساعد الزوجين على استقبال الزبائن ممن أصابتهم الحرب بشرورها. ويقال إن زوار المقهى كانوا في تلك الأعوام يقصدونه كموقع يوفر لهم الأمان والدفء، إذ كان ليوبولد يذهب يوميا إلى غابة فيينا والاحتطاب ليعود بكميات وافرة من الحطب يشعلها لتدفئة المكان، بينما كانت مباني المدينة ومنازلها تعاني من البؤس والفقر بسبب الحرب. وكانت جوزفين تخبز فطيرتها وتساعد زوجها على خدمة الزبائن.

وحافظ مقهى هافيلكا على مظهره البسيط، المميز ومقاعده الخشبية وجدرانه التي استغلها الزبائن لعرض إعلانات نشاطاتهم، خاصة بعدما غدا المقهى المقر المفضل لكبار الكتاب والأدباء والشعراء، طيلة عقد الستينات، لينافسهم الفنانون والرسامون أمثال المعماري المميز فريدريش هندرت فاسر والرسام المعاصر إرنست فوكس في السبعينات والثمانينات.

ثم تحول الهافيلكا أخيرا إلى أكثر المقاهي جذبا للشباب حتى المراهقين، خاصة أبناء الطبقات المثقفة الذين يبحثون عن مقهى يمتاز بجو عائلي، وخدمات ذات نكهة محلية راقية. ومما يلفت النظر فيه اليوم، بصورة ملحوظة، التمازج والتعايش والقبول بين الأجيال من مختلف الأعمار، فهنا عجائز تقليديون جدا ومحافظون، وهناك شبان مأخوذون بالحداثة والعصرنة.

في حديث لـ«الشرق الأوسط» أرجع امير هافيلكا النجاح المتجدد، وقدرة المقهى على اجتذاب الجميع لجودة أنواع قهوته، ولإحساس كل زبون بأنه المفضل، وأن طلباته واحتياجاته موضع احترام... وفي هدوء تام. ويؤكد أمير أن العائلة تميز زبائنها وتعرفهم رغم أفواج السياح الذين يقصدون المقهى بأعداد ضخمة.

وفي الهافيلكا، كغيره من مقاهي فيينا العريقة، لن يتسامح النادل النمساوي عندما يبادر الزبون إلى طلب قهوة تركية أو كابوتشينو أو لاته، بل يرد بكل فخر وأدب شارحا أن المقهى يزخر بقهوة نمساوية مائة في المائة من نوعية كلاينر شفارسر، وكلاينر براونر أو موكا، وميلانغ. و«الكلاينر شفارسر» (أو السوداء الصغيرة) هي فنجان صغير من القهوة السوداء القوية، أشبه ما تكون بـ«الإسبريسو» يقدمها هافيلكا ببن عربي يحمّص ويصحن داخل المقهى. أما «الكلاينر براونر» (البنية الصغيرة) فهي نوع أقل قوة من سابقة لخلط مائه بنسبة من الحليب. في حين يعتبر «الميلانغ» أشهر أنواع القهوة النمساوية، ويشبه الكابوتشينو الإيطالي، ويقدم وسطح الكوب يفيض بكمية من الكريمة أو الحليب المضروب... وهو المفضل عند سيدات فيينا عصر كل يوم في جلسات نسائية حميمة برفقة أكثر من صديقة. ودائما يقدم فنجان القهوة أيا كان نوعه بصحبة كوب صغير من الماء، كان الغرض منه قديما ـ كما شرح امير هافيلكا لـ«الشرق الأوسط» الحرص على نظافة الملعقة الصغيرة، لكن في السنوات الأخيرة أصبح الغرض رشف الماء عقب كل رشفة قهوة لمزيد من الاستمتاع بتذوق طعم القهوة من جديد. ثم أخيرا، وبعد زيادة الوعي الصحي أصبح شرب الماء ضروريا للزيادة التي يحتاجها الجسم منه، خاصة بعد تناول فنجان قهوة مركزة.