تهاني.. ترفع الراية البيضاء فوق عشة الدجاج

ارتعبت من إنفلونزا الخنازير وخافت على حفيديها

TT

بهمة استيقظت «تهاني» كعادتها كل صباح، جهزت الفطور والسندوتشات لحفيديها الصغيرين، بالمرحلة الابتدائية، وبعد أن هدأ البيت، وانصرفت ابنتها وزوجها إلى عملهما، أدارت «الكاسيت» واستمعت لأغنيتها المفضلة من روائع سيد درويش «الحلوة دي قامت تعجن في الفجرية، والديك بيدن كوكو كوكو».. فنجان القهوة المحوِّج على نار «السبرتاية» الهادئة نبهها لواجبها اليومي نحو أصدقاء يتلهفون لمقدمها فوق سطح المنزل. تتذكر «تهاني» ذات السبعين ربيعا، كيف دافعت بكل حنان ورقة عند حدود مملكتها الخاصة، وكيف انتصرت على رغبة ابنتها في إنهاء عشة «الكتاكيت»التي أنشأتها فوق السطح، لكن دوافع ابنتها النبيلة وأسبابها الواقعية للوقاية من إنفلونزا الطيور، التي ارتفع معدل الإصابة بها رسميا إلى نحو 68 مصابا، ووفاة 26 حتى الآن، فشلت في إقناع تهاني بالتخلي عن رفاق وحدتها، وونسة فراغها الذي أصبح طويلا وموحشا بعد وفاة زوجها قبل ثلاثة أعوام خلت.

بدلال لم يذهب بريقه من خطواتها صعدت «تهاني» فوق السطح، وما إن جلست على كرسيها الخيزراني، حتى أسرعت الكتاكيت والفراخ الصغيرة للالتفاف حولها، تتقافز وتتمايل في حبور، وهي تلتقط حبّات الذرة من بين كفيها، وتعبث بمناقيرها وريشها في «مسقية» الماء، وتدندن تهاني بنغمات خاطفة، أصبحت بمثابة لغة وشفرة سرية بينها وبين كتاكيتها.. مشهد السماء المفتوحة فوق السطح يغريها بالترحال بعيدا، فتصنع مراكب وطائرات ورقية، تطيرها في الهواء بعد أن تشبك فيها سربا من الأحلام الشريدة. بعد ساعة أو ساعتين تودع «تهاني» صغارها، ولا تنسى أن ترقيها بمبخرتها من عين الحسود. ومن عين ابن الأحول صاحب محل الطيور الوحيد في المنطقة، و«المنفوخ على الفاضي»، على حد قولها الأثير.

فلسفة تهاني، المعلمة المتقاعدة على المعاش، في الذود عن طيورها تلخصها ببساطة شديدة بقولها «الحياة مبنية على الثنائيات، والصحة والمرض واحدة منها، وزي ما بتجري على الإنسان، بتجري على الحيوانات. وكما أنه ليس هناك إنسان موبوء بذاته، فليس هناك أيضا حيوان ولا طيور موبوءة بذاتها. الصحة عرض والمرض كذلك». لكن هذه النظرة الفلسفية الرصينة اهتزت قليلا، بعد مفاجأة إنفلونزا الخنازير، والكلام عن خطورة تحوُّر المرض وانتشاره بسرعة بين البشر، بما يعرض العالم لوباء مدمر قد يحصد أرواح الملايين.

تستوعب « تهاني» كل هذه الاحتمالات، فهي تجلس بالساعات أمام التلفزيون، وتستمع إلى تحليلات وتحقيقات مصورة لخبراء وعلماء، من هنا وهناك. لكن صدمتها الحقيقية جاءت من حفيدها الأكبر «أكرم»، حين قال لها ذات مساء «جدتي لازم تتخلصي من الطيور والكتاكيت، بيقولوا إنها بتموِّت الناس، والحكومة قررت ذبح الخنازير، علشان المرض انتشر فيها. يا جدتي أنا خايف، أنا مش هآكل فراخ، ولا بيض تاني، ولا «أيمن» أخويا كمان».

أسقط في يد «تهاني»، فمن دون أن تدري أصبحت موزَّعة بين عالمين، لا يفصل بينهما سوى خطوة واحدة، ما بين حبها لطيورها، وحبها لحفيديها اللذين تخاف عليهما حتى من النسمة نفسها. ماذا تفعل، هل بهذه السهولة ترفع الراية البيضاء، وتستسلم لعدو غامض، يتخفّي في قناع الدواجن والخنازير، ولا أحد يعرف حدود ما يمتلكه من أسلحة فتاكة: «بس إزاي.. أحفادي عزوتي، وكتاكيتي حاجة جميلة بتسليني، وتشيل عني الهموم، هاعمل استخارة.. يا رب ألهمني الصواب». أسئلة تهاني وهواجسها لم تنته، بل أصبحت أكثر كثافة وحدة وإيلاما، حين فاتحها في الأمر نفسه زوج ابنتها الذي تحترمه وتقدره، وتعتبره كأحد أبنائها تماما. يصب في الخانة ذاتها ما وصلت إليه صورة الفيروس من فداحة، ترى «تهاني» ملامح مأساويتها في الفضائيات، وفي عناوين الصحف والمجلات، وفي نشرات الراديو، وفي أحاديث الناس في الشارع، وفي النادي، والسوبر ماركت.

في الليل تنفرد «تهاني» بنفسها في الشرفة، تقلِّب الأمر على أوجهه كلها، وتضع أسوأ الاحتمالات، لكنها تضعف أمام تهديد حفيدها بالكف عن أكل لحوم الدواجن والبيض، ويزداد ضعفها، حين تتذكر أن تحليلاته الطبية الأخيرة، أشارت إلى أنه مرشح للتعرض للأنيميا، نتيجة النقض الشديد في بعض العناصر الغذائية، وفي مقدمتها البروتين، والكالسيوم والحديد.

تطوي تهاني هواجسها قليلا، وتتسلل إلى السطح، تتأمل طيورها، وقد أغمضت عيونها مستسلمة لخدر النوم اللذيذ، تفكر في أن تتلمَّسها، وتُمَلِّس على ريشها الزاهي بألوانه التي تشبه قوس قزح. لكنها تتردد في ذلك. لا تتوقف تهاني كثيرا عند أسباب هذا التردد، لكنها بسرعة تستعيد مشهد طيورها في صباح الأمس القريب، وكيف كانت تحس بأنها تبادلها التحية والحبور، والرغبة في اللعب مع الحياة، وحين يشتد بها الحنين تناجي نفسها: «حاولت أن أكون مفيدة، أن أجد ركنا صغيرا أطل منه بإيجابية وحب على هذا العالم المجنون.. أنا لا أكره الراحة، بل أمقت أن تتحول إلى وخم ومرض».

تشرد تهاني للحظة وتهمس «ليت ابنتي المصونة تفهم ذلك».. وبنظرة تمتزج فيها أمومة الألفة، وأبوة الغرابة يعلو صوتها، ويشبه الصرخة: «أيها العالم المجنون، إلى أي مدى أصبحت حفنة من الكتاكيت الصغيرة البريئة تمثل خطرا على أمنك وسلامتك». تململت خطوات تهاني، وبدأت تحس بدوار وقشعريرة، وكأن الزمن قد تجمَّد في طينة هذه اللحظة، فجأة سقطت على أرضية السطح، لكنها حين استيقظت في الصباح، وجدت نفسها نائمة في السرير، ومغطاة بكل هذه الأغطية الثقيلة، وعلب دواء لم تأخذه من قبل، موضوعة بعناية على المنضدة بجوار السرير.

استعادت تهاني تفاصيل المشهد كله، وخمّنت أن صراخها، وصدى ارتطامها بالأرض، لابد أن يكون كل ذلك نبّه ابنتها وزوجها، فأسرعا بإنزالها من فوق السطح ووضعاها في السرير، وربما أحضرا لها طبيبا للاطمئنان على حالتها الصحية.

ولم تكد تتمادى في تخمينها حتى قاطعتها ابتسامة حانية، لطالما غابت عن شفتيهما في الآونة الأخيرة، واستقبلت تهاني قبلتين حميمتين من ابنتها «حمدا لله على سلامتك يا ماما، كنت في حالة صعبة جدا، وانتابنا الخوف والقلق عليك، وكان لازم نستدعي الطبيب فورا». في المسافة ما بين حافة السرير، وحافة السطح، وتحت وطأة هذه الأزمة المفاجئة التي ألمت بها، تسلل إلى فلسفة تهاني الصارمة بُعد إنساني جديد. في البداية احتارت في تسميته، لكن مع مشهد رجال الطب البيطري، وهم يصادرون الكتاكيت والفراخ، ويهدمون العشة، ويرشون السطح كله بمبيدات واقية.. هتفت تهاني التي طالما علّمت التلاميذ محبة الشعر واللغة العربية «الآن أقبل أيها الخراب الجميل»!.. ظلت ترددها بتنويعات مختلفة، وكأنها في حلم لم تستيقظ منه إلا على أصابع حفيدها الأكبر وهو يربِّت بحنان على كتفيها «ما تزعليش ياجدتي لما الأزمة تعدي هبني لك العشة تاني».