خياطو دمشق.. من 500 قبل نصف قرن إلى 60 خياطا حاليا

خدماتهم تنحصر في تصليح الملابس.. لكنهم ما زالوا يعيشون على ذكريات الماضي

عوامل كثيرة أدت إلى تراجع الإقبال على الخياطة التقليدية («الشرق الأوسط»)
TT

مع دخول ماكينات الخياطة المستوردة والشهيرة من ألمانيا وغيرها مع بدايات القرن العشرين المنصرم، اشتهرت دمشق وباقي المدن السورية ومنذ عشرات السنين بانتشار مئات الخياطين الذين تخصصوا في تفصيل وخياطة البدلات الرجالية والبنطلونات والقمصان التي لاقت رواجا منذ أواسط القرن، مستبدلين بها اللباس العربي التقليدي الذي ظل له خياطوه وزبائنه، خصوصا في البادية السورية والأرياف والأحياء الشعبية في دمشق.

كما اشتهرت العديد من النسوة السوريات في مهنة الخياطة، حيث كنّ يعملن في منازلهن ويستقبلن زبائنهن لخياطة بدلة نسائية أو روب أو قميص أو تنورة، حيث كانت الخيّاطة في السابق مصممة أزياء أيضا كحال الخياطين لبدلات الرجال.

كان الجميع يطلبون ودّهم ورضاهم وصداقتهم حتى يحجزوا دروا لديهم لتفصيل بدلة جديدة، خصوصا قبل المناسبات الاجتماعية والأعياد، وقد يوسطون أصدقاء لهم بسبب الازدحام الشديد، خصوصا على المشهورين منهم ممن انتشرت محلاتهم في أحياء دمشق الراقية والشعبية، كالقصاع والمهاجرين والمالكي والميدان والمزة.

وبسبب حاجة الخياط أو الخياطة إلى أيام طويلة لتنجز ما لديهم من طلبات لبدلات وألبسة أخرى، تغير حالهم وساء في الربع الأخير من القرن العشرين وضعهم وتقلص عددهم بشكل كبير جدا، ليس في العاصمة دمشق فقط، بل حتى في المدن والأرياف السورية. السبب هو الانتشار الكثيف لمحلات بيع الألبسة الجاهزة في جميع أسواق دمشق، والتي بدأت تعرض البدلات الرجالية والنسائية بأرقى الموديلات وأجملها وبأسعار أقل بكثير من مثيلتها التي كان يفصلها ويخيطها الخياطون والخياطات في محلاتهم ومنازلهن، مما جعل الدمشقيين يتخلون عن خياطيهم المفضلين ويتجهون إلى هذه المحلات للشراء منها، فانخفض عدد الخياطين التقليديين في دمشق وحدها من 500 خياط كانوا يعملون في النصف الثاني من القرن المنصرم، إلى أقل من 60 خياطا في أواخر القرن العشرين، كما يقول الخياط غانم خوري (أبو جورج)، الذي ما زال يعمل في محله التقليدي بإحدى حارات دمشق.

ويضيف أبو جورج قائلا: «تعلمت مهنة الخياطة قبل خمسين عاما، وكان عمري 18 سنة، واتبعت دورة للتعلم في بيروت، وكان الكثير من رجال الحارة والأصدقاء يحجزون دورا عندي لتفصيل بدلهم، وكانوا يستشيرونني بنوع القماش الذين سيشترونه لبدلتهم أو أحيانا يختارون من عندي القماش، حيث كنت أحتفظ بنماذج جيدة منها. وكانت البدلة الرجالية تستغرق أياما وأياما لإنجازها، حيث كانت تمر بمراحل عديدة، ونطلب من الزبون المجيء إلينا لأكثر من مرة للقياس وللتعديلات اللازمة. وفي النهاية يأخذها كما يرغبها الزبون، مفصلة عليه تماما، ويقول لنا مبتهجا: جاءت علي كالكأس تماما».

ويتأوه أبو جورج مع اختلاط ذكريات الماضي الجميل والواقع الحالي له ولزملائه ممن لم يتخلوا عن مهنتهم، وهو الذي كان ـ كما يقول ـ يدلّله الزبائن وينادونه «أبو جريج» ليكسبوا ودّه ويقبل هو أن يفصل لهم بسرعة ما يطلبون.

وأضاف أبو جورج: «الوضع اختلف حاليا معنا بشكل مأساوي، فالمئات من الخياطين حولوا دكاكينهم لبيع المواد الغذائية والاستهلاكية، وهناك من باعها أو أجرها لكي يستطيع الحصول على دخل مقبول منها، ومنهم من لم يستطع مفارقة مهنته بشكل نهائي فتعاقد مع معمل الألبسة الجاهزة ليعرض منتجاتهم لديه، مع الاستفادة من بعض خدماته في الخياطة».

ولكن من بقي في هذه المهنة فقط التي عشقها أبو جورج كأولاده، وهم قلة، انحسر عمله في خدمات بسيطة للزبائن، «نحصل من خلالها على دخل قليل ولكن يسد حاجة أسرنا، ومنها تقصير بنطال أو كم قميص أو تركيب سحاب أو تصليحات لبدلة، وغيرها. وهذه كلها نأخذ عليها أجورا قليلة جدا لا يتجاوز أكبرها مائة ليرة (نحو دولارين أميركيين)، وأقلها 25 ليرة».

عمر علواني (أبو معتز) خياط آخر ما زال يعمل في المهنة ويحاول أن يتأقلم مع التغيرات التي حصلت على مهنته، فيقول: «أعمل في هذه المهنة منذ خمسين عاما، ولكن في السنوات الأخيرة تغير الوضع معنا كثيرا، حيث أصبح الرجال والشباب يشترون الألبسة الجاهزة من وكالات افتتحت فروعا لها في الأسواق والمولات التجارية، ولذلك حاولت أن أتأقلم مع هذا الوضع وأن أحافظ على دخل مقبول، مع عدم تركي لمهنتي التي أعشقها، فأسست ورشة بسيطة نصنع فيها بنطلونات وقمصانا رجالية وغيرها ونبيعها بسعر مقبول، مع إبقائي على ماكينة الخياطة، حيث أستقبل الزبائن، ونلقى إقبالا في كل عام مع موسم افتتاح المدارس، حيث تكثر طلبات التصليح والترميم لبدلات الطلاب».

فضة عبود خيّاطة عملت من منزلها في أحد الأحياء الشعبية منذ أكثر من أربعين عاما، قالت إن نساء الحارة كن يتهافتن على حجز الدور لديها لتفصل لهن روبا، أو بدلة من أجل حضور مناسبة، أو مع قدوم فصل الشتاء أو الصيف. وتذكر فضة كيف كانت النساء يطلبن ودّها لتسرع لهن بتجهيز الثوب أو لتجهيز جهاز العروس من ثوب الزفاف وثوب السهرة وبدلة استقبال المهنئين بعد الزفاف. وتتحسر فضة على تلك الأيام الجميلة والصعبة بنفس الوقت، كما تقول، فجمالها من كونها استطاعت أن تقيم علاقات اجتماعية مع كل نساء الحارة، واستطاعت أن تجذب إليها العديد من الفتيات اللواتي يرغبن في العمل كخياطات، وعلمتهن فعلا الخياطة دون مقابل مادي، بل ساعدنها في العمل. أما صعوبة تلك الأيام فتقول فضة من كون العمل في الخياطة صعب ومجهد ويأخذ وقتا طويلا «وكله على حساب صحتنا وراحتنا نحن الخياطين».

وتشير فضة لماكينة خياطة قديمة وضعتها في زاوية منزلها، قائلة: «لقد أخذت مني هذه الماكينة عمري وصحتي، مع أنها قدّمت لي دخلا ماديا جيدا، ولكنها سببت لي أمراضا كثيرة مزمنة، ومنها روماتيزم مزمن في مفاصلي، وتكلس في رقبتي وركبتي، وآلام في صدري، وخدر في أصابعي. ومع ذلك لم أتخلَّ عنها رغم عدم الحاجة إليها بعدما تركت مهنة الخياطة قبل عشر سنوات لعدم وجود الزبائن كالسابق. تركت ماكينة الخياطة لأتذكر تلك الأيام الجميلة والصعبة».

المتابعون لمهنة الخياطة التقليدية يرون أن هذه المهنة ستنقرض حتما في السنوات القادمة، فمن بقي يعمل بها هم من كبار السن فقط، كما أن الانفتاح الاقتصادي الذي شهدته سورية، خصوصا بعد عام 2000، وافتتاح فروع لأهم ماركات الألبسة العالمية، ووجود معاهد حديثة تعلم تصميم الألبسة والموديلات، وانتشار عروض الأزياء بشكل دائم، والتي تقدم الجديد في عالم الأزياء، وانتشار موجات الأوكازيونات والتخفيضات على الألبسة، فأصبح الجميع يستطيع الشراء من محلات بيع الألبسة الجاهزة الراقية والشعبية، كل ذلك جعل الناس تتخلى عن الخياطين والخياطات التقليديين.