صناعة المناخل والغرابيل تتجه نحو الانقراض في دمشق

نتيجة للتطور السريع في نمط حياة السوريين

مصنع مناخل دمشقي مازال مصرا على مزاولة مهنته منذ نصف قرن («الشرق الاوسط»)
TT

يتداول الدمشقيون مثلا شعبيا متوارثا يقول: «من غربل الناس نخلوه». وهم يقصدون بذلك أولئك الناس الذين يستغيبون الآخرين بالنميمة فيتناولون سيئاتهم بشكل مباشر وكأنهم يغربلونهم من فتحات الغربال.. ولكن هؤلاء أيضا لن يسلموا من نمامين آخرين، بل من الممكن أن يتعرضوا لنميمة أقسى وأشد، وبالتالي يتعرّضون لكلام أدق من فتحات المنخل التي هي أدق من فتحات الغربال! بعيدا عن معنى المثل الشعبي فإن الغربال والمنخل أداتان منزليتان تصنعان من الخشب والأسلاك المعدنية، وكان هناك حرفيون دمشقيون متخصّصون في صناعتهما. وكان الغربال يستخدم لتنقية البرغل، وهي المادة الغذائية المعروفة التي تنافس الأرز في موائد الدمشقيين، وتنتج عن سلق القمح وطحنه وجرشه. في حين يستخدم المنخل في الأفران لتنقية دقيق القمح من الشوائب قبل عجنه وتحويله إلى خبز ناضج. ومن الطبيعي، بالتالي، أن تكون فتحات الأداتين تتعادل مع حجم المواد المراد تنقيتها أو تصفيتها، فقطر حبات البرغل أكبر من قطر حبات دقيق القمح.

وكانت صناعة الغربال والمنخل من الصناعات التقليدية التي عرفتها دمشق منذ القدم، وكان استخدامها بالطبع من مهام النساء، وكان في كل منزل دمشقي تقليدي تنّور صغير لتحضير الخبز، ومستودع خشبي كبير يسمى الحاصل. وكان الكثير من الأسر يتولى تحضير البرغل داخل البيت، أحيانا مع مساهمة مشكورة من الأهل والجيران.

غير أن التطور الكبير الذي طرأ على عادات السوريين بشكل عام، وتبدّل العادات الاستهلاكية بالخصوص، اتجهت صناعة المناخل والغرابيل نحو الانقراض، باستثناء وجود بعض الطلبات عليها من سكان الأرياف وقرى غوطة دمشق. ولذا تنتشر محلات تصنيعها وبيعها حاليا في أسواق دمشق القديمة إلى جانب الشرقيات والفولكلوريات والخشبيات، كما في سوق القباقبية مقابل الجامع الأموي، وسوق مدحت باشا في امتداده نحو الشارع المستقيم وباب شرقي. في حين كان في الماضي سوق خاصة بتصنيعها كحال الأسواق الدمشقية القديمة المتخصصة لبيع منتج استهلاكي واحد (كالحرير والعصرونية والنحاسين والحدادين والبزورية وغيرها) كانت تعرف بـ«المناخلية». وكانت سوق المناخلية تتفرع من شارع الملك فيصل في منطقة العمارة القديمة، وهي مغطاة بساتر هرمي من الحديد والتوتياء، ويعود تاريخها إلى العهد المملوكي.

أما اليوم فقد تحولت تلك السوق المتخصصة لبيع المناخل والغرابيل إلى منطقة تجارية تنتشر فيها محال بيع الأنابيب للأسلاك المعدنية والدهانات و لوازم البناء. فمع عزوف الدمشقيين عن شراء المناخل والغرابيل في النصف الثاني من القرن العشرين تحولت معظم محلات سوق المناخلية إلى بيع مستلزمات الحدادين والنجارين وتصنيع مفاتيح الأبواب، وحتى بيع المواد الغذائية ومواد أخرى. ولم يبقَ في السوق سوى حرفيّ دمشقي واحد حافظ على مهنة تصنيع الغرابيل والمناخل، وهو يبيعها لأصحاب محلات الشرقيات والخشبيات.

عبده الحمصي، وهو بائع شاب يملك محلا في المناخلية ورثه عن والده قبل عشر سنوات، برّر في حوار مع «الشرق الأوسط» تغيير والده مهنته من صنع المناخل إلى بيع مستلزمات البناء وتصنيع المفاتيح، فقال: «علينا مجاراة العصر الحديث وحركة الأسواق، فلم تعد صناعة المناخل تحقق لنا دخلا ماديا مقبولا، حتى منذ كان والدي يعمل بها. وكان دائما يتذمر من الحال الذي وصلت إليه هذه المهنة اليدوية. ومع أنه حاول أن يعلمني المهنة فإنه لم يحبذ فعليا أن أعمل بها». ويتابع الحمصي: «ولكنني عندما حاولت إقناعه أن يغير مهنته قبل وفاته ببضع سنوات، كما فعل بعض زملائه، أجابني قائلا إنه لا يجيد غير هذه المهنة التي ورثها عن جدي.. والعائلة معروفة بهذه المهنة، ولكن عندما توفي والدي وورثت المحل في سوق المناخلية قررت فورا تغيير مهنة والدي، وبحثت عن مهنة مربحة.. فوجدت أن أفضل شيء هو بيع المفاتيح ومستلزمات البناء، خصوصا أن هناك إقبالا جيدا على مواد البناء مع وجود مشاريع معمارية كثيرة في دمشق وريفها».

ومع هذا، في سوق مدحت باشا، وخصوصا في بدايته من جهة باب الجابية وفي نهايته من جهة مكتب عنبر وباب شرقي، ما زال بعض الحرفيين من كبار السن يعملون في تصنيع المناخل والغرابيل. ويقول أحد هؤلاء الذين التقيناهم وعرّفنا على نفسه بـ«أبو خليل الدوماني»، إنه يعمل في هذه المهنة منذ خمسين سنة، وكانت عائلات كثيرة في دمشق تشتري من عنده المناخل حين لم تكن هناك أفران تصنع الخبز، بل كانت العائلات تشتري القمح وتطحنه في مطاحن منتشرة على نهر بردى أو في الحارات الشعبية، وتنقيه أو تنخله بالمناخل، ومن ثم تحتفظ به في مستودع موجود بمطبخ البيت الدمشقي العربي التقليدي، حيث تعجن الزوجة قسما منه كل أسبوع، ومن ثم يؤخذ العجين إلى فرن الحارة ليتحوّل إلى خبز أسمر مشروح بلدي. أما العائلات الثرية فكانت تأتي بنساء متخصصات بالعجن وتدفع لهن أجورهن مقابل عجن كمية من الدقيق بجانب أجور الطحن والتنخيل، ومن ثم التسوية في الفرن.

ولكن كما يقول أبو خليل الدوماني: «الحال تغير مع انتشار الأفران الآلية الحديثة وتنوع منتجاتها منذ أكثر من ثلاثين سنة، وصار هناك عشرات الأنواع من الخبز، وتغيّرت عادات الناس، لكنني لم أستطع تغيير مهنتي لأنني ورثتها عن والدي، وهي تجري في عروقي، مع أنها تقدم لي حاليا دخلا بسيطا، فزبائني قلائل ومعظمهم من الريفيين وسكان البادية. ومع أن العديد من أصدقائي وأقاربي حاولوا إقناعي بتغيير مهنتي واستثمار محلي ببيع أشياء مطلوبة، فإنني رفضت».

وحول مراحل صناعة المناخل والغرابيل يشرح أبو خليل قائلا: «تتميز هذه الصناعة بدقتها ومقاييسها المحددة التي لا يمكن للحرفي تجاوزها, فبعد تحضير القوس الخشبية الحاضنة للشبك المعدني يجري تسليك القوس بشكل طولي وعرضي، بحيث تتكون لدينا ثقوب بأقطار هندسية متعارف عليها لتمرر ذرات دقيق القمح وتحجز الشوائب التي تكون أقطارها عادة أكبر من قطر ذرات الدقيق. يحدث بعد ذلك التخلص من الشوائب والاحتفاظ بالدقيق النظيف في وعاء أسفل المنخل، وكذلك الحال بالنسبة للغربال الذي يسلك القوس الخشبية بثقوب قطرها تمرر فقط حبات البرغل في حين تحجز الشوائب الموجودة معها، ويتم رميها فيما بعد في حين يحتفظ بالبرغل الخالي من الشوائب في أوعية خاصة».

وكانت الأسر الدمشقية تخبئها في أماكن خاصة بمطبخ المنزل (مع «مونة» فصل الشتاء) حيث يطبخ البرغل على الغداء، كما هو الحال مع الأرز، ويقدم معه اللبن الرائب أو يحضر منه المجدرة وغيرها من أكلات تعدّها الدمشقيات من البرغل.