البواب.. مهنة مهددة بالشركات الخاصة

عبد الله إبراهيم: أصبحنا مثل خيال المآتة

العشرة الطيبة هي ما جعلت أصحاب المنزل يتمسكون به ولا يلجأون إلى شركات الأمن الخاصة («الشرق الأوسط»)
TT

منذ 19 عاما تقريبا جاء عبد الله إبراهيم إلى القاهرة مهاجرا من قرية «المشاعلة» التابعة لمركز أبو كبير بمحافظة الشرقية، خرج مدفوعا بضيق العيش وسط خمسة إخوة. دخله اليومي لم يكن يتعدى ثلاثة جنيهات، انتشله أخوه من بين براثن الفقر ليعمل مع مقاول في حي الدقي، نظير ثمانية جنيهات في اليوم، ومثل المبلغ المنتظم له ثروة غير مسبوقة.

اتخذ قراره بالاستقرار وسط الزحام، تخالجه فرحة الكسب وقسوة الغربة، كان يؤدي الأعمال الخدمية للعمال، يحضر الماء والطعام والمشروبات حتى لا يتعطلوا عن العمل، وقتها شعر أن الدنيا تضحك له، خاصة بعد التحاقه بالعمل كبواب في حي المهندسين بعد ثلاث سنوات.

بدأ حياته الجديدة بالزواج من ابنة زميل له «بلدياته» من مركز كفر صقر، كان مرتبه 150 جنيها، إضافة إلى أجره من غسيل السيارات، ووفر له صاحب العمل مسكنا في مدخل البيت. وعلى سبيل التأمين لوضعه الجديد التزم عبد الله بنظام دقيق لنفقاته: وجبة الإفطار لا تتجاوز 5 جنيهات (أقل من دولار)، في حالة وجود أطفاله، وتنخفض الوجبة إلى جنيه ونصف الجنيه إذا كان بمفرده، يعتمد على معونات العائلة من القمح والأرز، والخضراوات.

يرسل أولاده للدراسة في قريته لتقليل النفقات، يقيمون عند أخيه، ويرسل لهم مصروفا شهريا لا يتعدى مائتي جنيه. من بين قبضة الحياة الخانقة يتمكن عبد الله من ادخار بعض مئات من الجنيهات يحتفظ بها في منزله على سبيل الاحتياط من هجمات المرض أو الطوارئ المفاجئة، وإذا اشتدت الهجمة فلا يجد سبيلا إلا صاحب المنزل، فلا يبخل عليه، ويقرضه ما يريد، وفي أغلب الأحيان يرفض رد الدين.

يبدأ عمل عبد الله في الخامسة صباحا، يغسل سيارات السكان لمدة ساعة، وبعدها يذهب لإحضار الصحف للسكان، ثم يجلس يناجي الشيشة، معشوقته القديمة، وعالمها لثلاث ساعات ونصف، في مدخل العمارة، بعدها يبدأ رحلته مع مطالب السكان، وجلب الحاجيات من السوق. وفي الخامسة يتناول غداءه ويعد لجلسته الأولى قبل أن ينام في منتصف الليل.

طوال 16 عاما قضاها في القاهرة كان بإمكان عبد الله أن يزيد من دخله أضعافا، فكثير من أقرانه قطعوا رحلة «البيه البواب» التي جسدها سينمائيا أحمد زكي من قبل، وأصبحوا في النهاية أصحاب أملاك، وطرق الثراء معروفة إما تأجير الشقق المفروشة، أو العمل كوسطاء في بيع الشقق والفيلات، بل من الممكن أن يختار برجا سكنيا أعلى نسبيا ومزدحما بالشقق لزيادة الدخل.

لكن عبد الله قنع بمكانه وضحى بذلك كله في سبيل «العشرة الطيبة» مع أصحاب المنزل، والجيران، إضافة إلى خوفه من المسؤولية: «أنا عمري ما دخلت قسم شرطة، أو حد قاللي هات بطاقتك، والمفروش مسؤولية ومشاكل، وأنا كده كويس والحمد لله».

نفس العشرة الطيبة أيضا هي ما جعلت أصحاب المنزل يتمسكون به، ولا يلجأون إلى شركات الأمن الخاصة، لتأمين العمارة بشكل أكثر احترافية وضمانا.

يعترف عبد الله بأن شركات الأمن أكثر فائدة من «البواب»، رغم تهاوي جمهوريتهم بفعل هجماتها المتتالية، ويقول: «طبعا الشركات أفضل، أفرادها يعرفون لغات، فإذا جاء ضيف أجنبي لا أعرف كيف أتصرف معه، كما أنهم متفرغون للحراسة ولا علاقة لهم بالمشاوير، استعان السكان بعمارتنا بحراسة خاصة في وقت من الأوقات، لكنهم أصروا على وجودي معهم، عشرة كبيرة بيننا، وما يخنش العشرة إلا ولاد الحرام».

بمزيد من الشجن يؤكد عبد الله أن دوره كبواب أصبح مع هجمة شركات الأمن الخاصة مثل «خيال المآتة»، وهي دمية على شكل إنسان يرتدي جلبابا، يلجأ إليها الفلاحون في الريف لإخافة الطيور حتى لا تأكل الزرع، أو لإخافة اللصوص في الليل، «وسيأتي اليوم ولن تجد في مصر بوابا واحدا». لعبد الله ثلاثة أولاد، بنت وولدان، داليا في الصف الأول الإعدادي ومحمد في الخامس الابتدائي، ومحمود الذي ما زال رضيعا عمره شهران، يحلم أن تصبح داليا طبيبة، ومحمد مهندس مرموق. بين الحين والآخر، يذهب لهما في بلدته ليطمئن على استثماره المستقبلي، يغضبه تعامل بعض المدرسين معهما، «إزاي يطلب من التلميذ أن ينظف الفصل، هو رايح يتعلم ولا يشتغل»، يتعجل حلمه بأن يصبح أولاده شخصيات مرموقة، لكن رغم ركام أحلامه فإنه لا يتمنى ترك مهنته أبدا، «حتى لو أصبح أولادي وزراء، الشغل بيحسسني إني عايش، وعمري ما هقعد في البيت أبدا لغاية لما أموت».

ملامح البهجة في أسرة عبد الله مكررة، هو نفسه لا يشعر بالسعادة إلا مع أقرانه وأصدقائه، في جلسته اليومية مع أنفاس الشيشة، وإذا شعر الأولاد بالملل وقت تواجدهم معه، يختلس سويعات بسيطة، ويستأذن من أصحاب المنزل، ويتوجه بهم إلى حديقة الأورمان بالجيزة، يفترش الأرض ويتركهم يلهون حوله. ما يقرب من 50 مترا هي مساحة جمهورية عبد الله التي تضم شقته الصغيرة ومكان جلسته الحميمة التي يتبادل فيها الود مع أقرانه وأسرته، يجلس برفقة الشيشة، ينفث إجهاد اليوم، ويقاوم على طريقة غاندي المسالمة هجوم الشركات على مهنته بالعشرة الطيبة.