تجار برج حمود.. مهارات جلبوها وأخرى ابتكروها

خصوصيات أرمنية في ضاحية بيروت الشرقية

جانب من سوق شارع اراكس («الشرق الأوسط»)
TT

«ذبح حلال». بهذه العبارة يستقطب «سيخ الشاروما» رواد منطقة برج حمود ذات الأغلبية السكانية الأرمنية في ضاحية بيروت الشرقية. وبعد الاطمئنان إلى «الحلال» يصبح حراما عدم تذوق أشهى شاورما سجق في العالم. وما أن يقدم المتذوقون على القضمة الأولى، حتى تنهار دفاعات أكثر المحافظين على صحتهم حيال النكهة والمذاق اللذين لا يقاومان.

إلا أن الطيبات الأرمنية ليست الاختصاص الوحيد للأرمن في برج حمود الذي يتميز بأنه أول سوق تجاري في لبنان، فهم من أبرع أصحاب الاختصاصات الحرفية. وقد تميزوا بها فور استقرارهم في المنطقة التي أصبحت ملاذهم بعد معاناتهم الظلم والتنكيل والمجازر والتهجير، فالمهارات التي حملوها معهم أو اكتسبوها، كثيرة تتراوح بين التصوير الفوتوغرافي وصناعة الذهب وصناعة الأحذية والألبسة والسجاد والنجارة والحدادة، والخياطة والأجواخ.

قبل ذلك كان لبرج حمّود حكايات عديدة. بعض الكتب تذكر أنه كان مقر أمراء بني حمود المغاربة الأندلسيين الذين وفدوا إلى بيروت للدفاع عنها ضد الصليبيين. وكان آل حمود قادة على ثغر بيروت وبعض الثغور الشامية، وقد سكن بعضهم برج الكشاف خارج سور مدينة بيروت. كتب أخرى تورد أن باني المنطقة هو الأمير حمود أرسلان الذي قرر في القرن الثامن عشر الإقامة في المنطقة الفاصلة بين بيروت ومتصرفية جبل لبنان الجهة الشمال، فبنى فيها منزلا مؤلفا من عدة طبقات بدا كبرج وسط البيوت التي تحوطه. أطلق على المنزل اسم برج حمود، ثم ما لبثت هذه التسمية أن أطلقت على المنطقة التي كانت كثيفة الأشجار والمستنقعات، وكان يسكنها الموارنة منذ القرن السابع عشر. وقد عمل سكانها في الزراعة وفي تربية دود القز وصناعة الحرير. وتفيد بعض المراجع أنها كانت ضمن قطاعات آل أبي اللمع عندما قصدها الموارنة منذ بداية القرن السابع عشر. وعندما بدأ الأرمن هجرتهم من كيليكيا إلى سورية ولبنان برا وبحرا، سمح لهم جيش الانتداب الفرنسي بالدخول إلى الأراضي اللبنانية، فأقيمت لهم المخيمات وسط المستنقعات.

ولأن الأرمن «شعب حي» كما يطيب لكبار السن اللبنانيين أن يصفوهم، لا يقبل الرجل منهم أو المرأة أو حتى الفتى المراهق الاكتفاء بالمساعدات وانتظار من يتولى أمورهم كلاجئين، حتى إنهم يتباهون بأنهم يعملون في كل المجالات الحرفية المتوفرة ليصلوا بعد ذلك إلى حيث يقودهم طموحهم. ويحكي أحدهم أنه بكى عندما شاهد في العاصمة الأرمينية يريفان شبابا وشابات يتسولون. هذا الأمر لا يحصل في لبنان، كما يؤكد الجميع. لذا سرعان ما تحولت هذه المخيمات إلى أحياء سكنية وأسواق وتمددت، لا سيما أن منحهم الجنسية اللبنانية أعطاهم دافعا للاستثمار حيث أقاموا. وحتى يومنا هذا لا تزال أهم مصانع الذهب ومشاغله في برج حمود وجل العاملين فيها من الأرمن الذين لا يعلمون إلا أبناء قوميتهم سر المهنة. ونادرا ما كانت تخلو علب مجوهرات سيدات المجتمع البرجوازي من قطع صيغة مشغولة بمهارة ودقة لصائغ أرمني. لكن الحرفية البسيطة تلاشت لدى صاغة برج حمود، لتندمج في «شغل السوق» للطبقة الشعبية، أما الصياغة الفنية للذهب والماس والأحجار الكريمة، فقد أصبح من عناوين بيوتات تجاوزت شهرتها لبنان إلى عواصم المجوهرات العالمية ومعظمها غادر أسواق ضاحيته إلى مناطق تليق بمكانته الجديدة.

فالأرمن رواد انفتاح، لكن بمزاج تحكمه مصلحتهم كأقلية لها خصوصيتها في لبنان. هذا الانفتاح يقبل عليه الشباب أكثر من كبار السن الذين يحملون في عيونهم ولغتهم كل التاريخ الأرمني. لا يريدون الخروج منه أو ربما لا يجيدون ذلك. فالكلمات العربية لا تزال تشكل عائقا لديهم.

لكن هذا العائق لم يحل في أربعينات القرن الماضي دون حملهم آلات التصوير الضخمة مع ركيزتها الأضخم والتجول في أحياء بيروت ومناطقها التجارية لالتقاط الصور للتجار والعائلات، إذ نادرا ما يخلو منزل بيروتي عريق من صورة لأحد الأجداد بتوقيع مصور أرمني. وإذا جمعنا الانفتاح إلى الشعبية الطاغية على برج حمود حاليا، لوجدنا أن الصورة مصغرة عن الوطن الأرمني باتت متداخلة مع «شعبويات» تجمع عددا من الطوائف. إلا أن هذا التعدد لا يزال يخضع لتسميات أرمنية. فالراغب بشراء الثياب الجاهزة والأحذية، لا بد له من أن يقصد سوق شارع اراكس، الذي شهد ولادة أول صالة سينما أرمنية بامتياز. فيه عدد من الأبنية التراثية والمحال التجارية على جانبيه. وبالطبع يضم عددا من المطاعم الصغيرة التي تختص بالبسطرما والسجق مع انفتاح على الشاورما بأنواعها. أما سوق أرمينيا فهو سوق متخصص بالأشغال اليدوية واللوحات الأثرية ويسمى بسوق «السوفنير» وقد كان يمتاز بالتجارة الحرفية المحلية والمستوردة من أرمينيا، وتحديدا المطرزات. لكن هذه الأشغال اليدوية بدأت تنحسر لمصلحة «شغل الماكينات». أما سوق «مرعش» فهو لا يزال يتميز بتصنيع المأكولات التراثية المتنوعة. منها ما هو خاص ومجهول تماما في المطبخ اللبناني، كطبق «كباب أورفا»، الذي سمي كذلك نسبة إلى منطقة أورفا الواقعة في أرمينيا الغربية والواقعة حاليا تحت الحكم التركي، ومنها ما يشبه الأطباق اللبنانية، مثل السبانخ، ورق العنب، والكبّة، مع تميزها بكثرة التوابل والحر، أو «اللمسة الأرمنية» فتبرز في تحويل التبولة إلى «إيتش»، يطغى عليها البرغل مع الكثير من الحر.

أما سر برج حمود، فيكمن في المعامل التي تستوعب نسبة كبيرة من اليد العاملة اللبنانية والوافدة، سورية كانت أم مصرية أم آسيوية. ويطيب للبعض أن يتندر حول قدرة هذه المعامل على تغليف الإنتاج المحلي بصبغة أوروبية. ويرون أن البعض يشتري ثيابا أو أحذية على أساس أنها أوروبية الصنع، ليكتشف بالصدفة أنها، وبكل بساطة، «شغل برج حمود» ولم يتم استيرادها من وراء البحار. الانفتاح أيضا يظهر جليا في تسميات المتاجر التي لم تعد الأحرف الأرمنية طاغية عليها، لنرى التسميات العربية والفرنسية والإنجليزية، ما يسهل على قاصدي السوق اختيار وجهتهم لشراء ما يحتاجون إليه. ولعل أطرف ما في عملية التسوق هذه أن معظم الأرمن، ومهما تبحروا في لغة سيبويه، لا يزالون يذكرون المؤنث ويؤنثون المذكر، ما يضع الزبائن في مواقف مضحكة، لينجروا أحيانا ويصابوا بالعدوى خلال مساومتهم الباعة البارعين.