«الهافانا».. مقهى دمشقي ملتقى الأدباء والمفكرين

يشبهه الكثيرون بمقهى الفيشاوي القاهري.. وكان من رواده الماغوط والجواهري والسياب

TT

دمشق، كغيرها من عواصم ومدن العالم الكبيرة، اشتهرت بانتشار المقاهي التي يرتادها المثقفون والأدباء والسياسيون، الذين يعطون لهذه المقاهي تميزا وخصوصية عن غيرها من المقاهي الشعبية العادية.

وعرفت دمشق المقاهي منذ مئات السنين، وكان أولها «النوفرة» في دمشق القديمة، والذي ما زال مفتوحا منذ 500 عام كمقهى شعبي تراثي يرتاده السياح وخصوصا الأوربيين منهم. إلا أن العديد من المقاهي اشتهرت في دمشق خصوصا في القرن العشرين المنصرم، وتميزت بتاريخ قريب شهد أحداثا كثيرة، وكان الأبرز من هذه المقاهي هو «الهافانا» الذي يتوسط مدينة دمشق ويتوضع في منطقة شديدة الكثافة والأهمية التجارية والاقتصادية والثقافية والرسمية، حيث يجاور منطقة الفردوس مركز مكاتب الطيران والسفر والسياحة. وليس بعيدا عنه تتوضع ساحة يوسف العظمة التي تطل عليها مباني المحافظة (أمانة العاصمة)، ومنها تنطلق سوق الصالحية أهم أسواق دمشق وأعرقها. ومن الشارع الذي يحتضن «الهافانا» ويسمى شارع «بورسعيد» يمتد شارع «29 أيار» الذي تحول في السنوات الخمس الأخيرة إلى شارع البنوك، مع انتشار فروع البنوك الخاصة العربية والدولية. وبالقرب منه يوجد جسر «فيكتوريا» أقدم جسور دمشق. كل ذلك أعطى «الهافانا» عراقة وشهرة وجذبا لمثقفي دمشق منذ تأسيسه قبل نحو 70 عاما. ولكن مع تأسيس مقهى البرازيل (الكوفي شوب) في فندق الشام القريب منه في ثمانينات القرن الماضي، والذي جذب الكثير من أدباء دمشق وكان أبرزهم الراحل محمد الماغوط، وفنانين نجوما وسياسيين كثرا، ومع بروز نجم مقهى الروضة بسبب موقعه المميز في وسط سوق الصالحية وطرازه الشعبي نوعا ما، واتساع مبانيه ووجود فسحة سماوية واسعة فيه، استغلها صاحبها مع المباني لتنضم إلى المقهى، حيث جذبت الروضة العديد من الأدباء والمثقفين السوريين.

منذ أواسط الثمانينات بدأ نجم «الهافانا» بالأفول، وكانت الحادثة الكبرى في منتصف ثمانينات القرن المنصرم والتي كادت تقضي عليه وتلغي وجوده من خارطة المقاهي الدمشقية هي قيام أحد تجار البناء الدمشقيين بشرائه بغية تحويله إلى محلات لبيع الألبسة والعطور وغيرها. ولكن كان أحد المثقفين له بالمرصاد فأعلم الحكومة السورية التي، ولأهمية المقهى التاريخية والمعنوية والثقافية، وللأحداث التي شهدها والشخصيات البارزة في المجتمع الدمشقي التي كانت ترتاده، كان القرار باستملاك المقهى من قِبل وزارة السياحة السورية.

وتعاقدت الوزارة مع «شركة الشام للفنادق والسياحة» المعروفة التي يديرها رجل الأعمال السوري عثمان العائدي بترميم وتجديد المقهى واستثماره مع المحافظة عليه كمقهى ثقافي قدر المستطاع.

وبالفعل، شهد «الهافانا» منذ أواخر ثمانينات القرن المنصرم محاولات جديدة لاستقطاب الزبائن وبخاصة رواده المعروفون من الأدباء والمثقفين، وحاولت الشركة المستثمرة له أن تجعل أسعار خدماته وسطية، فلا هي تشابه أسعار فندق الشام ذي الخمس النجوم المرتفعة، قياسا إلى دخل المثقف السوري، ولا هي منخفضة كما هي أسعار المقاهي الشعبية القريبة كمقهى الكمال وغيرها. كما حاولت الشركة التنوع في تقديم خدمات المقهى كما فعلت بكوفي شوب «الشام» (البرازيل). فبالإضافة إلى تقديم المشروبات الساخنة والباردة كحال المقاهي الأخرى والأراجيل وأدوات التسلية مثل طاولة الزهر والشطرنج وغيرها، قدمت أيضا وجبات إفطار صباحية من التراث الدمشقي المعروف مثل المسبحة والفتة والفول وغيرها، وبعض المأكولات السريعة والمشاريب الأجنبية ليأخذ شكلا سياحيا، مثل القهوة المحضرة على الطريقة الفرنسية والإيطالية.

كذلك خصصت الطابق العلوي من المقهى ليكون جناحا خاصا بالعائلات في حين ظل الطابق السفلي، الذي يطل على شارعين دمشقيين رئيسيين بشكل بانورامي جميل من خلال زجاج المقهى الشفاف، ملتقى للجميع. ومع كل هذه التجديدات في المقهى فإنه لم يشهد عودة الكثير من الأدباء والفنانين والمثقفين والسياسيين إليه، ويبرر البعض منهم عزوفهم عن ارتياد المقهى بوجود منافسين له مثل «الروضة» و«الشام» و«ألغورا» وغيرها، وكذلك ارتفاع أسعاره نسبيا قياسا بأسعار المقاهي الشعبية، وكذلك انتشار المقاهي والكافيتريات في دمشق القديمة التي بدأت تجذب الأدباء والمثقفين للاستمتاع بجو البيت الشامي التقليدي والكتابة بجانب النافورة والبحرة والفسقية. ويلاحظ حاليا أن أبرز رواد «الهافانا» هم من الكتاب والمثقفين الميسورين ومن السوريين الذين ينتمون إلى الطبقة الوسطى. وكذلك لوحظ إقبال العراقيين النازحين إلى دمشق على ارتياده بشكل كبير، ومنهم من يتواعد مع أقاربه وأصدقائه القادمين من العراق في «الهافانا» ليستقبله في دمشق. ومن أبرز رواد «الهافانا» من العراقيين عدد من الأدباء والمثقفين والكتاب والفنانين العراقيين المقيمين في دمشق، ويأتي في مقدمتهم المطرب العراقي المعروف سعدون جابر. ولمقهى الهافانا تاريخ عريق وشخصيات بارزة كانت ترتاده يتذكرها ويتحدث عنها لـ«الشرق الأوسط» الشاعر والكاتب السوري إسماعيل عامود (81 عاما) والذي كان أحد رواده منذ عام 1945. يقول إن «لمقهى (الهافانا) أهمية استراتيجية مكانية، فهو يتوضع على ناصية تقاطع شارع (المتنبي) وشارع (بورسعيد) و(سعد الله الجابري)، وهي شوارع تكتظ بالسيارات والبشر والمتسوقين، وقد كان قبل استقلال سورية عام 1945 ملهى وحانة يحمل اسم (القطة السوداء)، وبعدها تحول إلى مقهى حمل اسم (الهافانا). وكنا نرتاده بشكل يومي مع العديد من أدباء دمشق».

ومن رواده ممن كانوا يأتون دمشق من الدول العربية كان الشاعر العراقي بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وأحمد الصافي النجفي الذي كان مقيما في دمشق، وكان يجلس في «الهافانا» لساعات طويلة، والشاعر القروي، ومحمد مهدي الجواهري، والمصري أحمد عبد المعطي حجازي. ومن الفنانين الذين ارتادوه من مصر كان محمود المليجي وفريد شوقي والمغني محمد عبد المطلب، وكان رواده من مصر يشبّهونه بمقهى الفيشاوي القاهري. من جهته يروي الكاتب الصحافي هاني الخير المتابع لمقاهي دمشق الأدبية، ما ذكره الصحافي الراحل المعروف عبد الله الشيتي عن حوادث طريفة في «الهافانا»، ومنها أن الكثيرين من الشبان المتأدبين الجدد ممن أدركتهم حرفة الأدب كانوا يتسابقون للجلوس في «الهافانا»، ليس لتدخين النرجيلة أو قراءة الصحف المحلية والعربية إنما من أجل أن يسمع أحدهم اسمه عبر ميكروفون المقهى ينادي عليه النادل المكلف بوظيفة «مذيع». وكان المنادَى اسمُه يشعر بالزهو والغطرسة وهو يسير بين رواد المقهى. وحقيقة الأمر أن الواحد من أدباء الظل كان يكلف أحد معارفه أن يتصل بالمكان ويسأل عنه باسم الشاعر أو الناقد الكبير.