أطفال المخيمات يعبرون عن أحلامهم بالكاميرا

يكتشفون عالما قريبا إلى حيث يقيمون وغريبا بالكامل عنهم

احدى الصور التي تعرضها جمعية «ذاكرة» اللبنانية («الشرق الأوسط»)
TT

يوسف من مخيم شاتيلا في الضاحية الجنوبية لبيروت عمره 15 عاما. ترك المدرسة قبل ثلاث سنوات لأنه لم يكن يحبها. وبدأ العمل في مشغل للخيزران. أجرته الأسبوعية خمسون ألف ليرة لبنانية (33 دولارا). يتعب كثيرا ويتعرض إلى الزجر، مما يشعره بالندم على انقطاعه عن الدراسة. شغفه بالتصوير يعطيه مساحة للفرح. لكنه لم يملك آلة تصوير في يوم من الأيام. كان يشبع رغبته باستعارة هاتف محمول والتقاط ما تأسره عيناه. اليوم يحمل يوسف آلة تصوير تتمتع بمواصفات احترافية، وذلك بعد التحاقه بدورة تدريبية نظمتها جمعية «ذاكرة».

الجمعية التي تأسست في فبراير (شباط) 2007 تضم مجموعة من المصورين والفنيين والناشطين الاجتماعيين. ولادتها كانت «مغامرة» أقدم عليها المصور في «وكالة الصحافة الفرنسية» رمزي حيدر، ربما ليشعر بأنه تجاوز الحيز المهني إلى رسالة المهنة. وكان بدأها بفكرة نفذها في المخيمات الفلسطينية لتسمح لأطفالها بالتعبير عن قهرهم ونقل هذا القهر بآلات تصوير تستخدم مرة واحدة. الفكرة أثمرت إنجازات لا يستهان بها مقارنة بإمكانات فريق العمل، الذي وجد فيها فرصة حقيقية لمساعدة اجتماعية وإنسانية. ولعل أهمها حكاية محمد الذي فقد ساقيه في العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006 وحصل على ساقين صناعيتين بعد عام عندما شارك في المشروع وعرضت معاناته من خلاله. كذلك أثمرت معرضا وكتابا يجمع صور الأطفال الفلسطينيين.

واليوم استكملت الفكرة من خلال الجمعية وبدأت دورات تدريبية تجعل أطفالا ومراهقين لبنانيين وفلسطينيين يعيشون أحلاما لا إمكانات لدى ذويهم لتحقيقها. مدة هذه الدورة ثلاثة أشهر، وأهميتها أن تصهر المجتمعين اللبناني والفلسطيني المتداخلين بالمعاناة في الأساس، والعاجزين عن التواصل لأسباب لا تعد ولا تحصى. ومن خلال هذه الـ«ذاكرة»، يعلم ناشطو الجمعية الأطفال أصول فن التصوير، يحققون لهم أحلامهم بالتعامل مع الكاميرا، والأهم أنهم يفتحون لهم آفاقا جديدة مهنية من خلال إتاحة المجال أمامهم لرواية حكاياتهم اليومية في المخيمات من خلال الصور التي يلتقطونها بأنفسهم. هاني (17 عاما) هو أحد المراهقين الذين أسهمت دورة «ذاكرة» في تصويب بوصلتهم. يقول: «أعمل في 50 مهنة. فأنا حداد ونجار وكهربائي وسباك. وكل شيء. كنت أهوى المشاكل. أفتش عنها لأفش خلقي. أما اليوم فقد أبعدني اللعب عن الشر وهداني».

وماذا تنتظر من الدورة التدريبية على فن التصوير؟

«أريد أن أصبح صحافيا. صحيح أنني لا أجيد القراءة والكتابة. لكني أستطيع أن أعمل مع زميل يقرأ ويكتب ويساعدني».

الأحلام المستحيلة لهاني تقابلها أحلام ممكن تحقيقها. كما هي الحال مع ثروت (19 عاما) التي درست علوم الكومبيوتر واللغة الإنجليزية، ووضعت نصب عينيها أنها تريد أن تصبح مصورة محترفة وستقدم طلبا إلى إحدى الصحف اللبنانية للعمل لديها. تقول: «أحب التصوير كثيرا. عدا أنه يشبه الرسم الذي أحبه وأجيده، عندما أنظر من خلال العدسة أشعر أنني بمواجهة مرآة. ما أنقله بالكاميرا يشبهني كثيرا».

تبدو ثروت مرتاحة إلى خطواتها باتجاه المهنة التي تصبو إليها. الوضع ليس بهذه السهولة لدى حسن، الفلسطيني الذي يحمل جنسية أردنية ويعيش مع أهله في مخيم اليرموك قرب دمشق. يقول: «جئت إلى بيروت منذ شهرين لأفتش عن عمل وأساعد عائلتي. علمت بأمر الدورة من مسؤولة في منظمة الهلال الأحمر الفلسطيني. أحببت الفكرة والتحقت بالدورة وبدأت أتعلم تقنيات التصوير. والسبب أنني لا أملك صورا لطفولتي. هذا الأمر يشعرني بالحزن. فوالدي معدم ولا يستطيع منحنا ترف تكاليف التصوير، وأنا لم أحصل على كاميرا مطلقا. عندما أجد عملا، سأوفر المال وأشتري آلة تصوير وأحفظ ذكرياتي. وإذا لم أتمكن من ذلك، سأصور من خلال هذه الدورة كل ما أستطيع التقاطه وأجمع الصور وأحتفظ بها».

لعل أهمية مشروع «ذاكرة» تكمن في طرح هؤلاء اليافعين الباحثين عن مستقبل ما. يقول اللبناني علي صوفان (16 عاما) من الشياح في الضاحية الجنوبية لبيروت: «قبل الالتحاق بالدورة كنت حائرا. دراسة المرحلة الثانوية لم تعد تستهويني. بفضل ما أتعلمه حاليا، أصبحت أعرف ماذا أريد. سألتحق بمعهد للغرافيك ديزاينر وأكمل في هذا المجال، لاسيما أن الصورة تعبر أكثر من الكلام، ومن خلالها يفهم الناس كل ما يجري. والأهم أن آلة التصوير سمحت لي بالتعرف على مجتمع كنت أجهله. تعرفت إلى الفلسطينيين وظروف عملهم. ورغم قرب الشياح من برج البراجنة فلم أكن قد زرت المخيم هناك قبل اليوم».

هذا التعارف بين بيئتين هو ما يراهن عليه ناشطو «ذاكرة». الفنانة والمصورة ريا حداد تقول: «العمل مع المراهقين في هذه الدورة أظهر الفرق بين أطفال من الشياح وآخرين من المخيمات الفلسطينية. في بادئ الأمر كانوا يشعرون بالغربة. أما اليوم فهم يتواصلون. الأولاد يحتدمون أحيانا. يغلب على سلوكهم التنافس، لكننا نلزمهم بأصول للتعامل فيما بينهم. أما الفتيات فهن أكثر انضباطا».

المراهقون المنتسبون إلى الدورة يعيشون مغامرة حياتهم. أغلبهم لم يغادر مخيمه. الإعلامية والناشطة في الجمعية ريما أبو شقرا تقول: «بعض هؤلاء الأولاد لم يكن قد زار منطقة وسط بيروت أو مدينة جبيل (شمال بيروت) في السابق. لا أستطيع أن أصف نظراتهم وهم يكتشفون عالما قريبا إلى حيث يقيمون وغريبا بالكامل عنهم».

رنين (14 عاما)، التي لم تكن قد غادرت مخيم برج البراجنة، تقف على شاطئ جبيل وتروي تجربتها بنضج يفوق عمرها بسنوات. تقول: «تجربتي الأولى من خلال المشروع كانت اكتشاف قدرتي على التصوير. حملت كاميرا بدائية مع فيلم. أما اليوم فأنا أتعامل مع كاميرا ديجيتال. والأهم تعلمت أن لا أخجل عندما أصور أو عندما يصورني أحد».

الجولة مع المراهقين ومشروع «ذاكرة» تظهر قدرة البعض منهم على مواجهة الحياة بشجاعة قد يعجز عنها الكثير من البالغين. اللبناني خضر (16 عاما) أحد هؤلاء الشجعان.

يقول: «بعد انتهائي من دروس المرحلة المتوسطة، اضطررت للعمل ومساعدة أهلي. نحن ناس على قد حالنا (أي إن إمكاناتهم المالية متواضعة). أعمل منذ ستة أشهر في تصنيع بطاريات الطاقة (UPS) وأدرس الإلكترونيات في المعهد، كما أدرس تقنيات إصلاح أجهزة الهاتف المحمول. وحاليا أتدرب على التصوير الذي أحبه لأني أجد في الصورة عالما جميلا أريد أن أنقل إحساسي به إلى الناس».