الكتابة على حبات الرز والقمح في بلاد الشام.. بين الإبداع والفن والتجارة

ابتكرها خطاط لبناني قبل 60 سنة وما زالت محفوظة في متحف قصر العظم

السوري علي صافية وهو يكتب على حبات الرز أمام الجمهور («الشرق الأوسط»)
TT

من يزور متحف التقاليد الشعبية في قصر العظم التاريخي بالعاصمة السورية دمشق لا بد أن تلفت انتباهه تحفة نادرة معروضة في إحدى خزائن العرض، وهي عبارة عن حبة قمح كتب عليها فنان وخطاط لبناني هو الشيخ نسيب مكارم 63 كلمة، وشكلت في حينه ـ أي قبل أكثر من 60 سنة ـ حدثا استثنائيا نادرا، فقررت إدارة المتحف ضمها إلى مقتنياته.

بعد الشيخ مكارم، لم يجرب أحد الكتابة أو الرسم على حبات القمح والرز حتى أواسط تسعينات القرن العشرين المنصرم، عندما ظهر فنان وخطاط دمشقي يدعى علي صافية، الذي وهبه الخالق نظرا حادا وصل لأكثر من 14 على 10 حسب تقديرات الأطباء. وهو يؤكد أنه يمكنه المشاهدة بأكثر من ذلك. لقد تمكن الفنان صافية، الذي تتلمذ على أيدي خطاطين سوريين معروفين منهم أحمد المفتي ومحمد عدنان جواهرجي، من التفوق على إنجاز مكارم بكتابة 215 كلمة على حبتي القمح والرز، وبذا استحق دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية قبل سبع سنوات. والطريف في الأمر أن حكاية الكتابة على حبات القمح والرز استهوت العديد من الباحثين عن الشهرة في دمشق خلال السنوات العشر الأخيرة. فأخذت تنتشر في العديد من أسواق دمشق وفي الصحف الإعلانية الأسبوعية ـ التي توزع مجانا أسبوعيا ـ إعلانات تجارية عن وجود خدمة الكتابة على حبة الرز أو القمح.. لمن يرغب في كتابة اسمه أو اسم حبيبته وخطيبته على هذه الحبوب. وبالطبع، سيحتاج المرء إلى مكبر أو مجهر لمشاهدة اسمه مكتوبا عليها.

ويلاحظ زائر الأسواق الدمشقية التقليدية مثل القباقبية والتكية السليمانية والحميدية، أو المعارض السياحية وجود العديد من أصحاب المحلات يعلنون عن هذه الخدمة. كما سيشاهد أناسا، وهم غالبا من الجيل الشاب، أمام هذه المحلات يكتبون على حبة قمح أو رز أسماء وعبارات.. وقد تحلق حولهم عدد من السياح أو الزبائن من طالبي هذه الخدمة، ولا يتقاضى هؤلاء إلا أجرا زهيدا نسبيا لا يتجاوز 25 ليرة (حوالي نصف دولار أميركي) عن كل كلمة يكتبونها على حبة الرز. ويلاحظ أن العديد من هؤلاء ممن أدخلوا هذه الكتابة في أسواق دمشق هم من الشباب الراقين المقيمين في دمشق. ولكن انتشار كتابة الكلمات على حبات الرز والقمح، وبشكل تجاري، شكل تحديا للفنان صافية اضطر معه إلى تطوير منجزاته الفنية المجهرية وبالعين المجردة. ولم يكتف بكتابة مئات الكلمات على حبة الرز بل قام بكتابة مجهرية على الأحجار حيث كتب عليها ملايين الكلمات ووثق عليها الكثير من الأشياء الخالدة، منها القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، والتاريخ العربي الإسلامي ورموزه، وسير العلماء والأبطال والمفكرين والأدباء والمؤرخين القدماء والمعاصرين، ومعلومات عن البلدان العربية والإسلامية ابتداء من مدنها وآثارها وحتى مواقعها التاريخية والسياحية. ووثق الكثير مما نشر في الكتب والصحافة عن الرياضة ومنجزات أبطالها والاقتصاد والفنون التشكيلية وموسوعات المعارف والطيور والحيوانات وغيرها.. حتى تشكل لديه ملايين القطع الحجرية وحبات الرمل والرز والقمح وغيرها. ولقد كتب عليها كل هذه المعلومات مع رسوم رسمها صافية أيضا على هذه المواد، واستطاع حمايتها من الزوال من خلال «طريقة فنية للمحافظة عليها لآلاف السنين» كما قال لـ«الشرق الأوسط». وهو يشرح قائلا «بعد إنجاز الكتابة أقوم ببخ الحجر أو حبة الرز وغيرها بالكثير من مادة «التنر» والقليل من مادة «اللكر»، وبعد عدة أيام أقوم ببخها بشكل معاكس أي بكثير من «اللكر» والقليل من «التنر»، وتجري هذه العملية في الظل أو تحت أشعة الشمس بحيث تصبح الكتابة والرسوم محمية ضد الزوال أو التغير بفعل الزمن والظروف المناخية». ومن البيت المتواضع في منطقة جوبر الشعبية القريبة من دمشق، الذي حوله صافية إلى متحف ضم آلاف المقتنيات التي أنجزها خلال السنوات الخمس عشرة المنصرمة، يواصل هذا الفنان منجزاته الغريبة والنادرة. فخلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» قال: «لقد أنجزت رسوما على رأس دبوس وعلى عين البرغشة (البعوضة). أما في ما يتعلق بحبة الرز فقد تمكنت من رسم مائة ألف منظر طبيعي على مائة ألف حبة رز وكل واحد مختلف عن الآخر ومنها مناظر لغروب الشمس على البحر وشروق الشمس ومنظر لشجرة نخيل. وفي ما يتعلق بذرات الغبار فقد أصبح رصيدي 3000 ذرة غبار كتبت عليها ورسمت عليها مناظر متعددة من الطبيعة أو لأشخاص خالدين أو لراقصة صينية.. وهكذا، وأعتبرها نحتا على ذرات الغبار».

وحول مقتنياته الحالية يقول صافية: «لدي 500 ألف حجرة عليها 100 مليون كلمة، ومن خلال الكلمات ابتكرت فنونا جديدة. فالكلمات الدقيقة أحولها إلى عمل فني ذي معنى كما ابتكرت الطريقة التي تحافظ على الكتابة آلاف السنين، ولدي طريقة النقش على بيض النعام حيث لدي 50 بيضة نعام كتبت عليها القرآن الكريم 33 مرة، وكل مرة بأسلوب وخط مختلف عن الآخر. ولديّ أدوات موسيقية دقيقة جداً.. منها مائة ألف عود صنعتها من بذر الليمون. وهناك 100 ألف بزق صنعتها من حب التفاح والسمسم بقياس ملم واحد. وعلى ورقة بقياس 8 ملم رسمت عشرة مناظر طبيعية وبالعين المجردة. وأنا أستخدم أدوات بسيطة جدا عبارة عن قلم رصاص قياس ريشته نصف ديزيم أو رأس دبوس وألونه بأدوات خاصة وأنحت على ذرة الغبار بالعين المجردة ومن دون مكبر. وكتبت على حبة السمسم 37 كلمة وعلى وجهها الثاني أرسم منظرا طبيعيا. ومقتنياتي في حال تحويلها لمتاحف فإنها تشكل عشرة آلاف متحف ومعرض متنقل حول العالم». أما في ما يتعلق بنشاطاته في المعارض، فقد قال: «شاركت في 60 معرضا مشتركا ولي 30 معرضا شخصيا داخل سورية وخارجها» أخيرا، لم يكتف علي صافية، الذي يبلغ أواسط الأربعينات من العمر، بما أنجزه وتأسيسه أسلوبا فنيا جديدا، بل علم أولاده الخمسة هذا الفن أي الكتابة المجهرية على حبات الرز. ويقول علي في هذا المجال «ابنتي الكبرى جمانة وعمرها 21 سنة تكتب 76 كلمة، وحسن أصغر منها يكتب 32 كلمة ومحمد يكتب 12 كلمة، وريتا تكتب سبع كلمات والأصغر ماري روز (عمرها سنة فقط) تكتب 3 كلمات؟!».