سوق الصفافير في بغداد يصمت.. بعد أعوام من الضجيج

حرفيوه يشكون لـ «الشرق الأوسط»: وزارة الصحة والحرب وتجار الأقمشة وراء تراجعنا

صفار يعمل بمحله داخل سوق الصفافير المتخصص بصناعة الأواني النحاسية وسط بغداد («الشرق الأوسط»)
TT

سيمفونية النقر على النحاس، هو الوصف الأمثل لسوق الصفافير التاريخي وسط العاصمة بغداد، فبحسب الحرفي ماجد الصفار، فإن هنالك «تناغما صوتيا بين الحرفيين داخل السوق، كونهم اعتادوا على إحداث تقاطع بنقرة المطرقة، فيحدث أشبه بقرار وجواب بين الحرفيين، ويبدأ العزف بعد سماع مطرقة الأسطة الكبير، الذي يضرب بمطرقته الكبيرة قائلا: الله أكبر، بعدها يبدأ العزف».

غير أن الصفار يشعر بالأسف، لأن أصحاب السوق توقفوا عن سماع هذه السيمفونية في الوقت الحاضر لأسباب كثيرة، منها طغيان الصناعات المستوردة، وقلة النحاس في السوق، وتحول الصفارين لمهن أخرى، وقلة السائحين الذين كانوا يعتبرون الزبائن الأفضل، وأخيرا قلة الاهتمام الحكومي.

شارع أو سوق الصفارين أخذ تسميته من تخصصه، بكل ما هو مصنوع من النحاس، مدخله الرئيسي يقع مقابل المدرسة المستنصرية، التي أسست في العصر العباسي، التي ما زالت قائمة لحد الآن، وينتهي بشارع الرشيد.

وحافظ هذا السوق على هويته لغاية عقد التسعينات، حيث تمكن الحرفيون من مجابهة إغراءات تجار الأقمشة، الذين توسع نفوذهم ليشمل أجزاء كبيرة من سوق الشورجة القديم، لكن مقاومتهم ضعفت تدريجيا، بعد تراجع مبيعات النحاس، وعدم دخول السائحين بسبب الحروب والحصار وانغلاق العراق على نفسه، وشيئا فشيئا تراجعت ضربات المطرقة والسندان، وأصبح السوق يميل للهدوء وهو هدوء لا يبشر بخير، بحسب الحرفيين.

الحاج رضوان أبو محمد، (62) عاما، أوضح لـ«الشرق الأوسط»، أنه ورث محل صناعة النحاس عن أبيه، ومنذ صغره وجد في هذا السوق، ويذكر أن «أغلب ما ينتجه السوق تشتريه العائلات، وتتنوع الصناعات بين أواني طبخ وصحون وسماور لصنع الشاي و(شجوة) لصناعة اللبن، وطشوت لغسل الملابس ودلال القهوة، وكل مستلزمات الطبخ، وجميعها تجهيزات للعروس، فضمن العادات البغدادية يقوم أهل العروس بشراء هذه المواد، ويرسلونها في يوم الزفاف لبيت العريس، وكلما زادت القطع النحاسية كانت دلالة على حب العائلة لابنتهم العروس». وأضاف رضوان أن تاريخ السوق يعود إلى العصر العباسي، وتحديدا في زمن الخليفة المستنصر بالله، الذي أمر بإنشاء المدرسة المستنصرية، واحتاج إنشاء هذه المدرسة إلى حرفيين وبنائين وعمال وغير ذلك، إضافة إلى أنه أمر بإنشاء أسواق متخصصة قرب المدرسة لخدمة الطلاب، ومن بينها سوق البزازين والخفافين والعطارين والوراقين، وكان أقدمها سوق الصفارين، لكونه اشترك بعمليات بناء المدرسة وتجهيزها بالأواني واحتياجات البناء والطلبة وأساتذة المدرسة، وبعد إتمام عملية البناء بقي السوق لكنه تحول إلى التعامل مع الجميع، وعدم الاقتصار على الطلبة أو المدرسة، وجميع هذه المصنوعات تصنع من مادة الصفر، وهذه تسمية عراقية لمادة النحاس الأحمر.

وعن أسباب تراجع هذه الحرفة التراثية في العراق، أوضح الصفار أن «هذا التراجع حدث بسبب تعرض السوق إلى انتكاسات في أزمان مختلفة، أولها قرار وزارة الصحة العراقية في بداية الخمسينات بمنع استخدام أواني الطبخ المصنوعة من النحاس، كونها مادة تتفاعل مع أي مادة أخرى، وتحول إقبال الناس باتجاه الأواني المصنوعة من الألمونيوم والفافون، واقتصر الأمر على صناعة التحف للسائحين»، وأضاف أن «بعد هذا الوقت توالت الانتكاسات التي أثرت على السوق، التي بدأت في الحرب العراقية الإيرانية، حيث تم سحب كافة المعادن لصالح الصناعة الحربية، وبعدها صدر قرار بمنع دعم الدولة للحرفيين، وبشكل اضطر التجار إلى هجر حرفهم وبيع محالهم لصالح تجار الأقمشة، والآن لا تجد سوى 20 في المائة من الصفارين فقط في السوق».

وأشار رضوان إلى أن «الأوضاع الأمنية الحالية زادت حالة السوق سوءا، إضافة إلى إهمال الجهات المعنية لقيمة هذا الفن، فتجد أن وزارة الثقافة تقوم بدعم بقية الحرف التراثية مثل صناعة السجاد اليدوي، وصناعة العباءة الإسلامية، وأهملت فن صناعة النحاس، على الرغم من أنها الأقدم في العراق، حتى أنها تقوم بين فترة وأخرى بدعوة أصحاب بقية الحرف لمعارض محلية وعربية وعالمية، وتتجاهل النحاسيين الذين تمكنوا من إيصال فنهم إلى ارقي دول العالم منذ فترات ليست بالقليلة».

غير أن بعض الحرفيين أشاروا إلى انتعاش صناعتهم في الآونة الأخيرة بعد عودة السياح، وإقبال العراقيين أنفسهم على اقتناء أشياء تراثية تذكرهم بماضي بغداد.

من جانبها، تنبهت أمانة بغداد مؤخرا إلى أهمية التراث البغدادي وتأثيره على القطاع الثقافي للبلد، حيث ستقيم اليوم نـدوة متخصصة عن (سوق الصفافير) التراثي، والصناعات النحاسية وإقامة معرض يتضمن نماذج من صناعات هذا السوق ومعرض للكتاب عن فن الطرق على النحاس. ويتضمن البرنامج إلقاء أحد الفنانين العراقيين المتخصصين بصناعة النحاسيات محاضرة كاملة عن تاريخ السوق، والتحف النحاسية وكل ما يتعلق بهذا الموضوع.

وذكر المتحدث الإعلامي لأمانة بغداد ضرورة أن «تبحث السبل والآليات والإجراءات التي من شأنها إحياء السوق والمحافظة على ملامحه التراثية، والصناعات التقليدية القديمة». وأضاف أن الأمانة استجابت للنداء الذي أطلقه الفنان العراقي الرائـد محمد حسين جودي، المتخصص بفن الطرق على النحاس، لإنقاذ واقع سوق الصفارين، ومعالجة ما أصابه من تغييرات في ملامحه التراثية القديمة خلال السنوات الأخيرة.