محاولة للإمساك بزمن «فتوات الإسكندرية»

كانوا عنوان الأمن ومكمن الخطر

صورة تجمع فتوات الإسكندرية حميدو الفارس وأحمد النونو وإسماعيل سيد أحمد والطفل حسني أحمد النونو («الشرق الاوسط»)
TT

ولدوا من رحم الوهن الذي يصيب المجتمعات، فانتزعوا «نبوت» الخفير وصاروا عنوان الأمن ومكمن الخطر. الفتوات رجال عرفتهم مصر منذ زمن بعيد.. أسماء رنانة و«نبابيت» قدت من شجر الليمون، صفرتها تشي بالموت. كيف لا وقد تركت في زيت شديد الحرارة كي تفقد على مهل ليونة الحياة التي تفارقها للأبد، لتدمن هذه العادة وتسعى بين خلق الله أو فوق رؤوسهم. الفتوات أحفاد متصوفة الناصر لدين الله العباسي وجند الأتراك. هم في الأصل اختراع الناصر الذي جمعهم من حوله ليشكل بهم «فرق الفتوة» التي استعان بها لحفظ الأمن في البلاد. خالطهم جند الترك من «البلطجية» الذين قادوا الجيش التركي عبر غابات أوروبا حاصدين نباتاتها ببلطاتهم لتمهيد الطريق، قبل أن يتفرقوا في أنحاء الإمبراطورية عابثين. ومن هذا الهجين ولد الفتوة كما عرفته حواري القاهرة والإسكندرية كوجه قبيح للظلم وحلم قديم بالعدل. فتوات يفرضون الإتاوات بلا تمييز، ليزيدوا من هموم «الغلابة» في بر مصر بعد أن استعان «المقتدرون» بـ«القادرين». ويعتبر فتوات القاهرة أكثر من حصلوا على نصيب من الشهرة، مقارنة بفتوات مدينة الإسكندرية الواقعة على البحر المتوسط.. وفي هذه المدينة بدأت محاولة للإمساك بزمن «فتوات الإسكندرية»، وتظهر صور وحكايات عنهم، بعد نصف قرن من اختفائهم منها، مثلما سبقهم في الاختفاء فتوات العاصمة.

ويعد الذين التقوا بالفتوات أو بأولادهم وأحفادهم، على أصابع اليد الواحدة. ولا يعرف المصريون في الوقت الحالي الفتوات إلى من خلال القصص التي يعود أحدثها إلى فترة النصف الأول من القرن الماضي، وغالبية هذه الحكايات ترويها كتابات أدباء وأفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية.. وأمضى مصور الفوتوغرافيا السكندري، محب فهمي البالغ من العمر 46 سنة، وقتا طويلا وسط أبناء وأحفاد لفتوات من محافظة الإسكندرية، وجمع صورا وأوراقا وحكايات عنهم، في محاولة منه لحفظ هذه المذكرات والذكريات عن زمن الفتوات الذي مضى.

ومن أسماء فتوات إسكندرية الذين يتذكرهم «فهمي»، هناك إسماعيل سيد أحمد، فتوة محرم بك في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، والذي كان يهرب في سيارة والده السلاح للمقاومة الفلسطينية في مهدها. كان إسماعيل شابا وسيما من أسرة عريقة، وفيه شبه من الملك فاروق. وكرس هذا الشبه بطربوش ونظارة مميزة. وهو نفسه من آوى الضابط المصري محمد أنور السادات في فيلته بمحرم بك، عقب حادثة اغتيال أمين عثمان الشهيرة. وحين أصبح «السادات» رئيسا للجمهورية كان إسماعيل يقضي عقوبة بالسجن، فأرسل السادات في طلبه وأمر بنقله بطائرة خاصة إلى منزله. لم يكن هذا الأمر غريبا على شهامة الفتوات ووطنيتهم منذ نشأتهم. ففي عام 1798، وبعدما فر المماليك من جيوش نابليون بونابرت خرج فتوات الحسينية لقتاله مع جماهير الناس. غير أن نبابيتهم عجزت عن مواجهة مدافع نابليون التي حصدتهم بالقرب من منطقة إمبابة على المشارف الغربية للقاهرة. وظل أقران الفتوات في المناطق الأخرى يؤرقون بونابرت الذي ضاق بهم ووصفهم «بالحشاشين البطالين» في البيانات التي أذاعها في الناس لكي ينفضوا من حولهم.

ويروي فهمي ذكرياته عن أشهر فتوات الإسكندرية، ويدعى «النونو»، وقال إنه وجد بين أوراقه، بعد وفاته، خطاب شكر عن دوره في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948. وكان النونو أكثر الفتوات بأسا، خاصة أيام الاحتلال البريطاني لمصر، حتى إن أهله لقبوه بـ«البعبع». ومن الطرائف والملح التي تحكى عن «النونو» أن بريطانيا العظمى كانت ترسل المؤن والعتاد لقواتها وللجيش المصري وللنونو لكفاية غضبه. حكاية أخرى يرويها الريس علي كوته، وكان في الزمن الغابر بائع أسماك (يبلغ من العمر نحو 90 سنة)، وكان ممن عاصروا فتوة منطقة الأنفوشي «حميدو». يقول «كوته»: كان يقام في الإسكندرية مهرجان كبير لسباق القوارب سنويا بين أهل منطقة السيالة وأهل منطقة رأس التين، وكانت العادة أن يمثل رأس التين رجل يدعى «طلبة» بينما اعتاد آخر يدعى «دجيش»، إلا أن حميدو تصادف في سنة من السنوات وشارك في السباق ممثلا لمنطقة السيالة، كما تصادف وحضر ذلك السباق الخديوي عباس حلمي. وكان الحماس شديدا، وظلت جماهير السيالة تهتف «قفة ملح وقفة طين على دماغ راس التين»، فترد جماهير رأس التين « سيالة يا سيالة ياللى ما فيكى رجالة». وفي نهاية السباق فاز الفتوة حميدو بالسباق، فألقى له أفندينا عباس حلمي حفنة من الريالات الفضية فأبى أن يلتقطها من الأرض. وهو ما أغضب الخديوي، الذي استدعى «حميدو» إلى قصره برأس التين، وسأله منازلة أحد خدمه. فاستعان الفتوة «حميدو» بالله، وهو يقول للخديوي: «ربنا كبير». ووجه حميدو ضربة بالرأس لخصمه (الخادم)، فأفقدته الوعي وسقط من فوره. ونال العرض رضا أفندينا، فأنعم على «حميدو» بلقب الفارس، وصار من يومها «حميدو الفارس».

وشخصية الفتوة، التي طواها النسيان، ولم يعد لها وجود بمعناها ومواصفاتها القديمة، في الواقع المصري، تسللت من المخيلة الشعبية القاهرية لتسكن الأدب من خلال أعمال نجيب محفوظ وغيره من الأدباء المصريين. وهو الأمر الذي قاد قصص فتوات العاصمة وعالمهم إلى شاشة السينما في العديد من الأفلام أشهرها «الحرافيش»، و«التوت والنبوت»، «وسعد اليتيم»، ويبدو أن فتوات الإسكندرية سيظهرون في أعمال فنية وأدبية مستقبلا.