صناعة الحرير في تونس.. مستقبلها في لعاب دودة التوت

الملابس المصنوعة منه لا تقلد وبتميز لا يضاهى

المهدية التونسية مدينة الفاطميين تحتفي سنويا بالحرير عبر مهرجان مخصص له («الشرق الأوسط»)
TT

الحرير، المادة التي تسيل اللعاب، مصدرها حقا لعاب دودة الحرير. وعبر التاريخ ظل الحرير لباس الملوك والأعيان وأصحاب الجاه والسلطان، وعنوانا للترف ورغد العيش ودليلا للنعمة لا يمكن أن يخطئه أحد. ولقد كان محط أنظار المستكشفين الأوائل لبلاد الصين، ومن ثم بادله التجار بأنفس السلع لاعتقادهم بأن قطعة من الحرير تلين العقول وتطرب القلوب.

المهدية التونسية، مدينة الفاطميين، الواقعة على السواحل الشرقية للجمهورية التونسية تحتفي سنويا بالحرير عبر مهرجان مخصص له بلغ هذا العام دورته الثالثة، وغايته الأساسية التعريف بأهمية الحرير وتقريبه من الكفاءات الشابة بعيدا عن ملابس اليوم التي لا تختلف بعضها عن بعض في شيء. فهي تصنع بنظام التسلسل لتخرج كلها متشابهة، حتى ليذهب في ظن اللابس يوما أنه اقتنى لباسا مميزا خاصا به، فإذا به يفاجأ بين لحظة وأخرى أن المئات منها تتجول بالقرب منه أو في الشارع الموازي له..

أما الحرير فهو قطع لا تقلد، وملابس على القياس، وتميز لا يضاهى. ولذا يأخذ الاحتفال به أكثر من شكل.

يقول عادل القديري، المندوب الجهوي للصناعات التقليدية بالمهدية، إن «المادة الأولية الباهظة الثمن عطلت الكثير من المشاريع، ولذا تسعى تونس إلى إنتاج ولو جزء بسيط من احتياجاتها، وتعاونت في ذلك مع كوريا الجنوبية. وقد انطلق المشروع الأول في مدينة طبرقة بالشمال الغربي، ومن المنتظر خلال سنتين أن يرى المشروع الثاني النور في المهدية، خاصة بعد أن أبدى الكثير من المستثمرين اهتمامهم بقطاع الحرير وعلينا في القريب العاجل أن نبدأ بغرس أشجار التوت»...

وللتأكيد على أهمية قطاع الحرير في المهدية يقول الهاشمي عروس، الأستاذ الجامعي المتخصص في مادة الحرير: «إن شهرة المدينة في ميدان الحرير معروفة منذ القدم، ولنساء المدينة الكثير من الملابس الحريرية المتداولة من بينها الحزام والحرام والفوطة، وكلها ملابس حريرية لها تاريخ في المهدية. أما السلطان الفاطمي وحاشيته فالحرير كان المادة الأساسية التي كانت تصنع منها ملابسهم». ويتابع «وقد انطلقت صناعة الحرير من جديد في بداية القرن العشرين مع علي شراقة (أمين النساجة) ويرجع ذلك إلى عام 1916. وتتميز صناعة الحرير بالزينة المميزة لها، وللنساجة لغتهم الخاصة في ميدان الحرير، فيسمون الأزرق عنق حمامة، والأخضر الزرعي أو اللفتي الغامق، والأصفر الحمصي أو الكنالو، وكلها مرتبطة بألوان الطبيعة».

ويقدر الهاشمي عروس عدد نساجي الحرير في المهدية بحوالي 30 نساجا، وإذا عرفنا أن طاقة إنتاج النساج الواحد لا تزيد عن 100 قطعة في السنة، فإن إجمالي إنتاج للقطع الحريرية يكون في حدود 3000 قطعة سنويا. وهو من ناحية ثانية، يرى أن تراجع عدد قطع الحرير التي تطلبها العروسة في المهدية من ثلاث أو أربع قطع تدخل في تركيبة جهازها، إلى قطعة وحيدة في معظم الحالات هو الذي أفرز ضغوطا هائلة على صناعة الحرير في المهدية. أما نذير الجمالي، وهو صاحب ورشة عمرها أربع سنوات، فيقول إنه تعلم صناعة الحرير منذ الصغر عن والده، وقد أغلق المحل لمدة طويلة قبل أن يرجع من جديد ويفتحه بعد استكمال الدراسات الجامعية. ويرى الجمالي أن الصناعة اليدوية وحدها لا تكفي، لذلك يسعى من خلال الورشة التي يشرف عليها إلى مواكبة العصر وتطوير طريقة الإنتاج الحالية، والاتجاه بالملابس النسائية الزاهية نحو التصدير. ويذكر الجمالي أن ورشته تشغل حاليا حوالي 12 شابا تتراوح أعمارهم ما بين 19 و37 سنة، وبالإمكان أن تفرز في القريب العاجل أجيالا جديدة متخصصة في صناعة الحرير وقادرة على أخذ المشعل من الأجيال التي حافظت على الصنعة. هذا، وتجدر الإشارة إلى أن الرداء المهداوي الذي يقارب «البسكري» المعروف في جزيرة جربة التونسية، صناعة حريرية خالصة تزيد العروس حبورا ودلالا. هكذا يعرف سكان المهدية أهمية صناعتهم. لكنهم يعرفون أيضا أنها صناعة مضنية، وأتعابها تبدأ من انتظار دودة التوت، علها تجتهد وتطلق القليل من لعابها الذي يجمعه صاحب ضيعة التوت ويسلمه على سجيته إلى تجار الحرير. ومن ثم يخلصه هؤلاء من شوائبه ويضعونه على ذمة المصنعين.. الذين يقع عليهم إبداع ما يرونه مناسبا للعصر وللعادات المتوارثة.