مصر: «السمسمية».. ملحمة أهالي مدن القناة

أصلها فرعوني وإيقاعها يحركهم جسدا وروحا

ذاع صيت فرق السمسمية، وحلقت خارج فضائها الإقليمي مما حدا بشعراء مشهورين للكتابة للفرق مثل الشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذي كتب لفرقة أولاد الأرض («الشرق الأوسط»)
TT

في حلقة دائرية تجمع حولها العشرات من الأهالي، وفي منتصفها يقف العازف.. يبدأ طقس الغناء والرقص على آلة السمسمية، التي يعشقها أبناء محافظات قناة السويس. يقوم العازف بالعزف والغناء وسط تصفيق وتجاوب الحاضرين معه.. ومع طبيعة المناسبات والأفراح الشعبية يتنوع هذا الطقس، بداية من حفلات «ليلة الِحنَّة» التي تسبق الزفاف بيوم واحد، واحتفالات شم النسيم، والأعياد القومية. لكن الظهور الجماعي لطقس السمسمية يتجلى مع الفوز في مباريات كرة القدم، فساعتها تتحول شوارع السويس والإسماعيلية وبورسعيد، إلى كرنفالات فنية، يمتد فيها الرقص والغناء حتى الساعات الأولى من الصباح.

وفي هذه الاحتفالات تردد السمسمية واحدة من أشهر أغانيها «غني يا سمسمية لرصاص البندقية ولكل إيد قوية حاضنة زنودها المدافع».. وهي الأغنية التي طالما رددها الملايين من المصريين خلال حرب أكتوبر (تشرين الأول)، وارتبطت بوجدانهم، وعاشت مع البسطاء أفراحهم وأحزانهم حتى الآن.

ذاع صيت فرق السمسمية، وحلقت خارج فضائها الإقليمي في حفلات أضواء المدينة، كما شاركت مع فرقة الطنبورة البورسعيدية في إحياء بعض الحفلات في خارج البلاد في مهرجانات عالمية، مما حدا بشعراء مشهورين للكتابة للفرقة مثل الشاعر عبد الرحمن الأبنودي الذي كتب لفرقة أولاد الأرض.

ارتبطت نشأة السمسمية بعملية حفر قناة السويس، فكانت وسيلة للتسلية والسمر لعمال الحفر، يتحلقون حولها في المساء للتخفيف عن أحزانهم وآلامهم من الغربة ومن ويلات السخرة التي تكبدوها. ومع نغماتها كانت تخرج آمالهم وأشواقهم المكبوتة رغبة في حياة أفضل.

عن هذه النشأة يقول حسن كشك موثق لتاريخ السمسمية: هناك ما يشبه الإجماع بين عدد كبير من المؤرخين على أن أصل آلة السمسمية هي آلة «الكنارة» الفرعونية، وكانت تشبه إلى حد كبير آلة الهارب الحالية، إلا أنها أصغر حجما، ولها سبعة أوتار من أمعاء الحيوان، وتطورت إلى آلة الطنبور النوبية الحالية، وهي عبارة عن علبة من الخشب، أو قصعة، أو طبق صاج مشدود عليه جلد رقيق، ولها ذراعان متباعدان يسميا المداد، يربطهما ذراع ثالث على هيئة قاعدة المثلث يسمى حمالة، ويتم ربط الأجزاء بخيوط قوية من أعصاب الطيور، وتزين بالخرز والنقوش والدلايات، ويكثر استخدامها بكثرة في الزار وتتبع السلم السباعي.

يضيف كشك «ثم كان التطور إلى آلة السمسمية التقليدية الحالية، مما يدل على أنها آلة مصرية خالصة. لكن هناك رأيا آخر يذهب إلى أن السمسمية دخلت إلى مصر مع أبناء الجزيرة العربية التجار الذين كانوا يأتون إلى مدينة السويس أو استقروا بها. ودلالات أصحاب هذا الرأي الأغاني المشهور بـ(الأدوار الجداوية) نسبة إلى مدينة جدة والتي مازالت تغنى حتى الآن في مدينة السويس.

ويؤكد كشك أن أول من استخدم آلة السمسمية بشكلها الحالي من أهل السويس هو الفنان السويسي «كبربر»، ثم انتقلت إلى مدينة الإسماعيلية، وأول من استخدمها بالإسماعيلية الفنان «أحمد فرج»، ثم انتقلت إلى بورسعيد وأول من استخدمها هناك الفنان «أحمد السواحلي». والملاحظ أن كلهم من أصحاب البشرة السمراء أي ينتمون للنوبيين.

أنغام السمسمية كما كانت متنفسا عن آلام عمال السخرة، كانت أيضا مصدرا لتفجير حماس أبناء مدن القناة (السويس ـ الإسماعيلية ـ بورسعيد) لمقاومة الاحتلال الإنجليزي، واستمرت تلهب حماس الجماهيري في حربي 56 والاستنزاف، حتى نصر أكتوبر المجيد في عام 1973.

ومن طينة السمسمية وإيقاعها الشعبي خرجت أسماء أشهر فرقها: «أولاد الأرض» و«أولاد البحر» و«الصامدين». اشتهرت هذه الفرق على ضفاف القناة، ونشرت روح الصمود والتحدي لتحرك الجماهير في كل مصر ومن دون مقابل نحو المقاومة.

يقول حسن كشك: كانت نكسة 5 يونيو (حزيران) 1967 قاسية على الجميع حيث شاعت روح اليأس بين المصريين، ولاعتبار أن منطقة القناة الخط الدفاعي الأول والأخير لحماية مصر، تبدلت روح المرح والسهر إلى روح مسؤولية في كل منطقة القناة، وعمل خطوط دفاعية حتى يستعيد الجيش تنظيمه، وبعد التهجير عام 1967 تطوع كل الباقين في المقاومة الشعبية من مدن القناة، وظهر دور فناني منطقة القناة بخاصة فرق السمسمية في بث روح الأمل في مصر، ووقف التباكي على الهزيمة والعمل على تحرير سيناء.

تكونت فرق السمسمية في السويس بفرقة «أولاد الأرض» ثم فرقة «الصـامدين» في الإسماعيلية وفرقة «أولاد البحر» ببورسعيد. وانتشرت حفلاتها في تلك الفترة في الأماكن التي تم فيها تهجير أبناء المنطقة في المدن والقرى ومعسكرات التهجير للتسرية والترفيه عنهم وإبعاد روح الغربة. وكان من أشهر العازفين والمغنين في ذلك الوقت الكابتن غزالي مؤسس فرقة السويس.

ورغم قلة العازفين على آلة السمسمية في هذا الوقت بعد رحيل العشرات، منهم إلا أن هناك المئات من عشاق هذا الفن نجحوا في استعادة نبضه، ومواصلة حيويته، حتى أن أحدهم أخذ على عاتقه تطوير آلة السمسمية من خمسة أوتار إلى 16 وترا. يقول أحمد شحاتة عازف السمسمية «أضفت وترين إلى السلم السباعي بآلة السمسمية ليصبح مجموع أوتارها 16 وترا، حتى يمكن من خلالها تقديم كافة الألحان الشرقية لتواكب التطور السريع في الآلات الموسيقية. يضيف شحاتة: «مع رحيل رواد هذا الفن تبقى أمامنا مشكلة في توثيق تاريخ هذا الفن ومحاولة استعادة مكانته في نفوس الجيل الجديد من الشباب».

أما مصطفي غريب (39) عاما موظف، فيقول: «لا يوجد أحد في منطقة القناة لا يحب السمسمية، ولا يوجد منزل في الإسماعيلية يخلو من أشرطة لهذا الفن».

ويضيف: «عندما تسمع آلة السمسمية ينتابك شعور غريب وتكون لديك الرغبة في الرقص على أنغامها التي تجعل الجميع في حفلاتها يرقصون».

أما المدرسة سوسن عبد الحميد فتقول: عندما تسمع السمسمية تشعر بأنك تسمع إيقاعات مختلفة عن الموسيقى الموجودة الآن، إيقاعات تشدك جسدا وروحا. وتذكر سوسن أن والدها يحتفظ بحفلات حية للسمسمية على شرائط فيديو «عندما أشاهدها أندمج بشكل تلقائي مع العازف، وأشعر بحالة من الصفاء والتصالح مع نفسي.. إنه سحر السمسمية الذي لا يقاوم»!