رحى القمح وجاروشة العدس اليدوية تعود إلى سورية

بعدما تهددت بالانقراض

«جاروشة» بين نساء ريفيات سوريات («الشرق الأوسط»)
TT

تطل كثير من المهن اليدوية التراثية الريفية التي كادت تنقرض إلى الواجهة من جديد في سورية، على أيدي نساء ريفيات شابات. كذلك تنشط مجموعة من الجمعيات الأهلية في سورية في تنفيذ مشروعات اجتماعية تراثية موجهة بشكل خاص إلى المرأة، لا سيما في الريف والحارات الشعبية ومناطق السكن العشوائي في المدن. وهكذا تصيب هذه الجمعيات من خلال هذه المشروعات ـ كما يقال ـ عصفورين بحجر واحد، فهي من جهة تعيد إنهاض حرف ومهن تراثية كادت أن تزول وتنسى، ومن جهة ثانية تساعد النساء على تحسين أوضاعهن الاقتصادية والمعاشية من خلال مشروعات صغيرة مدرة للدخل ومن خلال تأمين قروض مالية صغيرة تساعدهن على تنفيذها. في هذا المجال، تدعم الجمعيات الأهلية السورية وتشجع النساء الريفيات والبدويات، خاصة في مناطق الساحل والشمال والوسط السوري، على إنهاض إنتاج بعض المواد الغذائية الريفية، مثل البرغل والحنطة المدقوقة ـ التي تحولها النساء في مطابخهن إلى أكلة دمشقية تعرف بـ«القمحية» أو «الهريسة» ـ وكذلك إنتاج الحنطة المسلوقة المشوية قليلا التي تحضر من خلالها أكلة «الفريكة» المعروفة في المطبخ الدمشقي التي تقدم على الغداء كمناسف مع لحم الغنم البلدي أو مع لحم الدجاج الأبيض.

وتعمل هذه الجمعيات على تسويق منتجات النساء وتأمين أسعار جيدة لها من خلال أسواق المدن والمجمعات الاستهلاكية. ولقد تحدث الدكتور محمد صادق الدبيات، رئيس «جمعية أصدقاء سلمية»، وهي واحدة من هذه الجمعيات الأهلية، لـ«الشرق الأوسط» عن مشروع تراثي تنفذه جمعيته في قرية الشيخ هلال على أطراف البادية السورية. وحسب الدبيات، فإن «من ضمن أهداف المشروع الذي انطلق قبل سنة، الذي يواصل عمله الآن، تشجيع نساء القرية على إحياء بعض الحرف اليدوية المهنية الريفية التي كانت موجودة في القرية قبل نصف قرن، لكنها انقرضت، أو كادت، مع تطور الحياة ودخول التكنولوجيا والآلة الحياة المعاصرة. ومن ضمن هذه المهن اليدوية التي تعمل على تشجيعها الجمعية وتلقى إقبالا من نساء القرية حتى الشابات منهن سلق القمح في الصيف ومن ثم تحويله إلى برغل، والجرش، وقطف القبّار وتخليله وهو ينبت في القرية كنبات بري، وكذلك تحضير (المكدوس) من الباذنجان والجوز والفليفلة، وصناعة المربات كمربى التين، خاصة أنه يوجد كثير من أشجار التين في القرية والقرى المجاورة، ويضاف إلى ذلك تصنيع الجبنة والزبدة. ثم هناك نسج البسط اليدوية، وكذلك أقمنا ورشة تطريز تقليدي، حيث تابعت 13 امرأة من نساء القرية دورة على العمل في التطريز، وهو ما فتح أمامهن أبوابا لزيادة دخلهن. ونحن نعمل على عرض منتجاتهن في معارض تراثية تنظمها الجمعية». ومن الحرف التراثية الريفية الجاري تنشيطها أيضا، تصنيع رحى القمح ـ أو «الجاروشة» ـ لجرش العدس لتحضير الشوربة التي اشتهر بها الريف السوري. ففي مناطق شمال سورية أعادت بعض هذه الجمعيات الرحى ـ التي يطلق عليها البعض أيضا اسم «الرحية» ـ للعمل عليها من خلال نساء القرى. وهي، وفق الكاتب علام العبد «أداة معروفة منذ القدم، وتتألف الرحى أو الجاروشة من طبقتين دائريتين من حجر البازلت الأسود (الصوان) الخشن الملمس. ويوجد في وسط الطبقة العليا دائرة مفرغة هي عبارة عن حفرة صغيرة يرتفع من مركزها قطعة معدنية تحافظ على بقائها متطابقة مع الجزء السفلي الأملس من (الجاروشة) يوضع فيها القمح أو الشعير أو العدس بعد غربلته وتنقيته من الشوائب والحجارة. وعلى طرف حافتها العليا يوضع مقبض خشبي تدار حركة (الجاروشة) بواسطته». وبعد وضع الحبوب وإدارة «الجاروشة» بشكل دائري يتهاوى العدس المقشر لأنصاف والبرغل من أطرافها. وكان هناك حرفيون ريفيون رجال يقومون بتصنيع الرحى أو «الجاروشة» من خلال تحويل الأحجار البازلتية بطريقة فنية وعزم قوي إلى رحى وأدوات أخرى. واشتهرت كثير من القرى السورية، خاصة في منطقة الساحل والجبال السورية، بوجود ورش بدائية بسيطة يعمل فيها شبان ورجال على تصنيع الرحى والمستلزمات الحجرية الأخرى من الجرن والجاروشة ودولاب المكبس (دولاب معصرة الزيتون). وفي سياق العودة العامة إلى إنهاض الحرف اليدوية الريفية، عاد الاهتمام ينصب بصورة خاصة، على تصنيع هذه الأدوات الحجرية. ويقول لـ«الشرق الأوسط» عبد الرزاق المحمد (أبو ياسر) الذي يمتلك ورشة لصناعة الأدوات الحجرية والخشبية اللازمة للمزارعين في إحدى بلدات ريف دمشق بالغوطة الشرقية: «لقد أسست ورشتي هذه قبل ثلاثين سنة لتصنيع مستلزمات المزارعين في الغوطة، وهي مستلزمات يحتاجونها بشكلها البدائي كالمناجل والرفوش وأدوات الفلاحة البسيطة، وكذلك، كنت أصنع بعض مستلزمات الأسرة الريفية التي تحتاجها كجاروشة البرغل ورحى الطحين. ولكن بسبب قلة الطلب على الأخيرة استغنيت عن تصنيعها، إلا بناء على طلب الزبون، في حين أبقيت على مستلزمات المزارعين الخشبية والمعدنية، خاصة أن تصنيع الرحى من الصخور يحتاج إلى جهد عضلي كبير ولوقت طويل. إذ قد يستغرق تصنيع رحى واحدة نحو خمس ساعات. وحاليا معظم زبائن الرحى والجواريش هم بعض النساء الريفيات اللاتي يرغبن في العمل عليها لبيع منتجات البرغل وعدس الشوربة والقمح المقشور للقمحية في الأسواق. والبعض منهن يبسّط بها في شوارع وساحات دمشق حيث يشتري الناس منهن بشكل جيد لسببين: أولها أنهم يعتبرون أن المعروض منتج يدوي نظيف وغير مغشوش ومحضر بشكل جيد، والثاني من باب تشجيع الحرف اليدوية النسائية الريفية. ثم إن من الزبائن المتزايدين للمنتجات الحجرية الريفية اليوم منتجي المسلسلات التلفزيونية التراثية والتاريخية والشامية ومنظمي المعارض الفولكلورية وغيرهم». وبالفعل، من يتجول صباح كل يوم في عدد من أسواق دمشق وساحاتها، خاصة الشعبية منها والمكتظة بالناس.. كشارع خالد بن الوليد، بجوار مبنى الإطفائية القديم، وفي منطقة البرامكة، وفي منطقة سوق الهال القديم بشارع الثورة، وبجانب كاراجات انطلاق المسافرين، يشاهد العشرات من النساء الريفيات بلباسهن القروي التقليدي وهن يعرضن منتجات ريفية مثل «الفريكة» والقمح المدقوق والعدس المجروش و«المكدوس» وغيرها أمام المتسوقين. وتقول إحدى القرويات اللاتي التقيناهن في منطقة البرامكة ـ وعرفتنا على نفسها بأم ياسين ـ «أعمل مع بناتي الثلاث في القرية على تحضير هذه المنتجات يدويا، وحتى لا أبيعها لتجار الجملة الذين سيعطونني سعرا قليلا، أقوم كل يوم تقريبا بالتبسيط بها هنا وأبيعها بسعر معقول، فأحقق دخلا لا بأس به يضمن لي ولبناتي عيشا مقبولا».