بائع صحف سوداني يؤجرها لمن لا يستطيع دفع الثمن

عملا بمبدأ «قدر ظروفك»

الصحف في السودان.. إما للبيع أو الايجار («الشرق الأوسط»)
TT

يا ربي متين اشوف «أرى» الخرطوم ـ قالوا في الخرطوم البنت تسوق عربية ـ وتشرب الموية من الحنفية ـ وآخر الشهر تصرف الماهية

* هذه المميزات جعلت «الخرطوم» في نظر القروية أروع مكان تتمنى زيارته كما أبدع فنان، قبل عقود، في تصوير حياة الخرطوم العاصمة في نظر القرويين عبر مشهد مؤثر لا يزال يرسخ في الذاكرة لصغيرات يقفن صفين راقصين احدهما يمثل القرويات والآخر العاصميات، وكلاهما تطرح تصورها لحياة الأخرى. والخرطومية بالطبع تصر أن حياة القروية هي الآمنة باعتبارها مصدر الرزق والخير، فيما القروية تؤكد أن الخرطوم هي «الساس والراس».

أمنية رؤية الخرطوم وزيارتها أمنية لا تزال حلم كثيرين، بل هي أمل الحياة لآلاف الشباب خاصة الذكور ظنا أن الخرطوم يتوفر فيها الرزق وسبل الراحة والمتعة، هذا على الرغم مما عم المدن وأكثر القرى من مظاهر تنمية وعمران.

على الرغم من كثرة الحديث وتكراره عن أهمية الالتزام بالبقاء في مواقع الإنتاج من زراعة ورعي، فإن جولة قصيرة في شوارع الخرطوم، عاصمة النيلين، بذراعيها أم درمان والخرطوم بحري أثناء ساعة الذروة بالنهار، والمدينة تفيض وتموج بالملايين من البشر، تؤكد أن الخرطوم لا تزال هي المغناطيس الجاذب لأولئك الشباب حتى لو كان في الأمر مخاطرة بتحولهم لعطالة كاشفة أو مقنعة، خاصة عندما يكتفون بأعمال هامشية يقومون بها وهم ينتشرون كباعة لأنواع بضاعة لا تثمر ولا تغني من جوع يزاحمون العربات في الشوارع الرئيسية لبيع مناديل ورق، وبعض الألعاب، وغيرها من فوارغ لا تستأهل المخاطرة بالحياة تحت أرجل عربة من تلك العربات المسرعة، أو بضربة شمس تحت درجة حرارة تصل لما فوق الأربعين درجة مئوية.

دع عنك العمل كباعة جائلين أمام فرندات الأسواق مما يجعلهم عرضة لحملات النظام العام التي تقوم بها سلطات البلدية من حين لآخر، كلما كثرت شكوى المواطنين من الزحمة وانفراط النظام العام فتهب في نشاط قصير النفس لمطاردة أولئك الشبيبة في «كشات» كثيرا ما تنتهي بمصادرة البضاعة وضياع رأس المال ليعاودوا الكرة مرة أخرى ما أن يبرد نفس الحكومة، وهكذا يستمر الحال ما بين كر وفر.

ما يفرج الهم عن القلب قليلا أن بعض أولئك الشباب طموح جاد لا يقتنع بالحال المائل على الرغم من محدودية تعليمه، لذلك فإنه لا يبقى طويلا في تلك المجابدات وغير المثمر من الأعمال بل يبدأ بالقليل مؤمنا أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.

من أولئك بائع الصحف المتجول محمد أحمد الذي لا تختلف ملامحه عن الوصف المعتاد: أسمر اللون، فارع، عيونه عسلية، شعره قرقدي. وبتحديد أكثر عمره 23 عاما، من إقليم كردفان، منطقة معافي، بالقرب من مدينة بارة، لفت انتباه «الشرق الأوسط» بدقة مواعيده، وهدوئه، وتدفق معلوماته ليس في مجال عمله كموزع للصحف اليومية فحسب بل في كثير من شؤون البلاد. وهو ملم كل الإلمام بنوعية وتوجه كل صحيفة، وأشهر كتاب أعمدتها، وجدية أخبارها أو ضحالتها بل سبب تدهور مبيعات تلك ولماذا ازدادت مبيعات هذه. رغم أنه بحساب الشهادات والتأهيل الأكاديمي لم ينل نصيبا وافرا من التعليم إذ لم يتجاوز المرحلة المتوسطة. بل تطرق ذات يوم عندما تشعب بيننا الحديث، بعد أن تسلمت منه الصحف أثناء رحلة قصيرة للخرطوم، للتصنيف الذي يتداوله الصحافيون بالداخل عند تصنيف مواقف الحكومة من الصحف اليومية، الذي يشار إليه بـ«الميمات الأربع» أي صحف معارضة، وصحف معادية، وصحف مملوكة، وصحف موالية. ووفقا لتلك التصنيفات يكون نصيب كل صحيفة من الإعلانات الحكومية التي تدر ذهبا أو حرمانها ومضايقتها حتى تقفل أبوابها، كذلك ووفقا لذات التصنيف تكون فرص الصحف وبرها بالأسرار والأخبار ومرافقة المسؤولين في بلد تتعسر فيه حركة الصحافيين لمواقع الأحداث وملاحقتها. وأهم من ذلك تفسيره لما يعمله مقص الرقيب ليلا من قص وحذف بل إغلاق وحبس.وقد وافقه على هذا التصنيف البليغ عدد من الزملاء متسائلين بخبث لماذا لم يصنف هذا الفتى كإعلامي وجهت له الدعوة والضيافة لحضور المؤتمرات؟

من جانب آخر وفي رد عن سؤال لماذا ترك محمد أحمد منطقته قادما للخرطوم وكردفان كما يقولون غرة خيرها جوة وبرة؟ ابتسم قائلا: «يبدو أن هذا الخير المشار إليه خارجها إذ لم نره داخلها». وإن وعد بالعودة إليها عندما يعمرها التنقيب عن النفط ويسودها الأمان مستدلا بالمثل القائل: «العرجاء لمراحها». يبدأ محمد أحمد يومه بتوزيع ما يزيد على 1000 صحيفة يتسلمها من قريب له ضمن آلاف النسخ التي يتسلمها ذاك القريب من دار التوزيع ليوزعها بدوره على عدد من أقربائه الشباب ممن هجروا قريتهم وما حولها. حدود منطقة توزيعه تقتصر على جزء من أم درمان الودود الولود، حول منطقة السوق الكبيرة وسوق الصاغة وزنك الخضار والبوستة القديمة، وما بين هذه الجهات مسموح له ببيع الفائض على عدد من المنازل، مما ساعده على خلق روابط وعلاقات اجتماعية متينة وجعله يزيد من عائده المالي، إذ إنه كبائع «ماهر» يقوم ببيع صحفه ليس نقدا في كل الحالات بل أحيانا بالأسبوع ومرات بالشهر، حسب ما يتناسب والحالة المالية لكل زبون إيمانا منه بضرورة المساهمة في نشر الثقافة. ليس ذلك فحسب بل إنه يلجأ كثيرا لتأجير الفائض من الصحف «الراجع» بمبلغ قد يصل للنصف صباحا وأقل منه مساء عملا بمبدأ «قدر ظروفك» وذاك مبدأ اقتصادي شعبي حميم يقوم على عدم الحرمان بسبب الفقر. ويشير محمد لشيوع هذا المبدأ في مختلف الاحتياجات بما في ذلك على سبيل المثال أن يشحن المرء جواله بشريحة توفر إمكانية إجراء مكالمة من نوع الـ«missed call» فقط. يستطرد شارحا أنه يؤجر الصحيفة لبضع ساعات ليستردها فيؤجرها مرة ثانية وثالثة ورابعة بل أكثر عندما يكون نشيطا بإمكانه الحركة لتحريك النسخ ما بين موقع وآخر فيما لا يمانع أحيانا من السماح لبعض الزبائن بتصفحها مجانا باعتبار أن «الدنيا معاملات» خاصة لزبائن الصحف الرياضية الذين يهمهم في المقام الأول معرفة من سجل «الجون»، ثم عندما يتوفر الوقت والثمن يتابعون التفاصيل ويستمتعون بنقاشها. الجدير بالذكر أن سعر معظم الصحف اليومية السياسية قد وصل إلى جنيه واحد، ونصفه للصحف الرياضية. هذا الثمن بالعملة الجديدة كما يقول العامة من السودانيين ممن لم يتعودوا بعد على التغيير الذي طرأ على العملة، إذ أصبحت 1000 بالقديم تعادل جنيها واحدا بالجديد. ولا نستبعد استمساك كثيرين بالحساب بالقديم بدلا من الجديد كنوع من الرفض لما تعرضت له العملة من تغييرات وتعديلات ليس في الشكل والقيمة فقط بل حتى الاسم من جنيه لدينار لجنيه! من جانب آخر أشار محمد أحمد أن كثرة الصحف التي زاد عددها عن 25 صحيفة يومية بالإضافة للصحف الاجتماعية والصحف الرياضية يجعل بعض زبائنه يشترون ما يصل إلى ست أو سبع صحف كل صباح. متوقعا أن يرتفع العدد أكثر وأكثر بعد ظهور صحف حزبية ستنطق بلسان 69 حزبا سياسيا تم تسجيلها.