بئر مسعود.. بئر الأحلام والنهايات التراجيدية في الإسكندرية

تحتضنه ربوة صخرية يرجح أنها مقبرة يونانية

صورة للبئر والربوة الصخرية المحيطة به («الشرق الأوسط»)
TT

مشهد يشد انتباه الزائر للبقعة الساحرة على شاطئ سيدي بشر، شرقي مدينة الإسكندرية، والتي أطلق عليها أهل عروس البحر المتوسط «بئر مسعود». في فصل الصيف تطوف نسائم البحر العليلة محلقة فوق هذه الربوة الصخرية الفريدة من نوعها والتي لا تضاهيها أخرى على شواطئ الإسكندرية، لكن هذه البئر في الشتاء تشبه فوهة بركان ثائر حيث تخرج منها المياه لتعلن تضامنها مع الأمواج العاتية خلال الموسم، إذ ترتبط البئر بقناة مائية مع البحر طولها ثلاثة أمتار وهي تنخفض عن فوهة البئر بحوالي 5 أمتار تقريبا في أعلى ربوة صخرية. وقد وصف الكاتب الإنجليزي فورستر هذه الربوة بأنها «غاية في الروعة، وهي عبارة عن كتل من الأحجار الجيرية البارزة داخل البحر، والتي يتخللها الماء وينبثق منها من خلال الثقوب والشقوق. وتم عمل شقوق طولية صناعية، وربما قام أهل الإسكندرية القدماء ـ الذين أحبوا الألعاب المائية ـ بعملها وثبتوا بها أبواقا موسيقية أو طواحين ميكانيكية، ويمكن إكمال السير على طول الساحل حتى غابات المنتزه». وكما هو حال الإنسان في كل مكان فإنه يبحث عن شيء خارق للعادة يعلق عليه تحقيق أمانيه وأحلامه، فتجد فتيات وسيدات وأطفالا وشيوخا يمسكون بقطع النقود المعدنية ويلقون بها في جوف هذه البئر الصخرية المحفورة بأنامل البحر المتوسط، اعتقادا منهم أن أمانيهم وأحلامهم ستتحقق بمجرد أن يهمسوا بها للقطعة المعدنية وابتلاع البئر لها. ولكنها، على ما يبدو، ثقافة الغيبيات والخرافات والأساطير، التي تعود جذورها إلى الأساطير اليونانية التي كانت تمجد سطوة البحار وآلهتها. استمدت البئر شهرتها كمزار سياحي من الأساطير والخرافات التي يتناقلها الأهالي والسياح عن بركات البئر وأنها تجلب الحظ، فما بين الدعوات «يا رب أتجوز.. يا رب أخلف.. يا رب ابني ينجح»، تجد الفتيات يبحثن عن فارس الأحلام، والسيدات يرغبن في الإنجاب، والأمهات يطمحن في نجاح أبنائهن في الدراسة، والرجال يرغبون في إنجاب الأبناء ليكونوا لهم سندا في الحياة، وآخرين يسعون في تمني الشفاء من أمراض عجز الطب عن علاجها. رامي إبراهيم (25 عاما) يقول «اعتدت أن أزور البئر كل عام خلال فترة الصيف التي أقضيها بالإسكندرية وتعجبني فكرة إلقاء النقود في البئر، فنحن نتعلق بأي قشة لتحقيق أحلامنا، ونحن نعلم أن الله وحده هو الذي بيده كل شيء». بينما يرى أحمد مرسي، 20 سنة، أن معظم الناس يعلمون أن أكثر مزارات مصر تتخذ طابعا يلفه الغموض والأساطير، لذا يعتقد الناس أن إلقاءهم بالنقود أمر قد يحقق أمانيهم، وهو أمر يثير السخرية». وعن قصة بئر مسعود يقول الحاج علي محمد (86 عاما) «الحكاية بدأت بمجموعة من الأجانب اللي كانوا بيعيشوا في إسكندرية زمان، وكانت عندهم اعتقادات أن رمي الفلوس بيجيب الحظ، ومن هنا بدأت الحكاية تنتشر وورثها السكندريون منهم». الغريب أنه لا يوجد أحد من أهالي الإسكندرية يعلم السبب الحقيقي وراء تسمية البئر بهذا الاسم، لكن يقال إن البئر استمدت بركتها حينما حلم أحد أهالي المنطقة بالعثور على ابنه المفقود «مسعود» في قاع البئر وحينما خرج الأهالي يبحثون عنه ليلا، عثروا على الطفل غارقا في قاع البئر لم يمسسه سوء ولم تنتفخ جثته، فقاموا بدفنه في المنطقة وأطلقوا اسمه على البئر.

ورواية أخرى تقول إن مسعود كان أحد الدجالين الذين يبيعون الناس أمور السحر والشعوذة وحينما طاردته الشرطة في أوائل القرن الماضي هرب منهم في البئر ولم يعثروا عليه أبدا ولم يشاهده أحد بعدها. بينما يقول البعض إنه اسم أحد الرجال الصالحين الورعين الذين عاشوا بهذه المنطقة وكان راعيا لمسجد سيدي بشر وعند وفاته دفن قرب الربوة العالية وأطلق الأهالي اسمه على البئر. الطريف أن الزائر للبئر سيشاهد الأطفال الذين ينزلون إلى أعماق البئر ويغوصون داخله ويكتمون أنفاسهم ليخرجوا منه إلى البحر ثم يعودون إليه مرة أخرى مستعرضين مهاراتهم في السباحة، وهم أيضا يجمعون القطع المعدنية الملقاة في جوفه، إلا أن المأساة تكمن في أن الكثيرين منهم يتعرضون للغرق بسبب قوة اندفاع الأمواج وعدم تمكنهم من العودة إلى فتحة البئر. طبيعة المكان الساحرة ووجود مقاه تقدم المشروبات المثلجة والمأكولات الخفيفة، جعلته قبلة للمحبين ليجعلوا منه مكانا للوعود بالزواج ويبنون عليه القصور الوردية، ولا مانع من إلقاء النقود على سبيل الذكريات. تقول هند السباعي، 23 سنة: غالبا ما أحب أن أقضي وقتي مع خطيبي في هذا المكان لأنه مميز ومنظر البحر ساحر، ونتحدث عن خططنا المستقبلية وكل ما يتعلق بحياتنا سويا، ونظل نضحك على السائحين الذين يعتقدون أن البئر ستحقق لهم أمانيهم، لكن في النهاية نقوم بإلقاء النقود على سبيل المرح والتسلية». ورغم الأجواء الرومانسية التي تحيط بالبئر، إلا أنها كباقي الآبار مليئة بالأسرار والحكايات والقصص الدرامية، فيروي أهالي المنطقة عن قصص انتحار لفتيات وشباب اصطدموا بواقع الحياة الأليم فألقوا بأنفسهم داخل البئر الصخرية مما أودى بحياتهم على الفور، وقد أوهم الجهل الكثيرين أن البئر مسحورة وأن الجثث تختفي ولا يتم العثور عليها أبدا، في حين أنها تنجرف مع تيار الأمواج إلى البحر مما يُصعب اكتشافها.

وفي الآونة الأخيرة، تحدثت دراسات أثرية عن أن منطقة بئر مسعود كانت مقبرة تعود للعصر اليوناني الروماني، وتجري بعثة المعهد الهلليني للدراسات اليونانية حاليا دراسات حول المنطقة.

ويقول الأثري علاء محروس، مدير عام إدارة الآثار الغارقة بالإسكندرية «يحتمل أن تكون بئر مسعود مقبرة تعود للعصر اليوناني الروماني، حيث كان اليونانيون يقيمون مقابرهم قرب البحر»، موضحا أنه حاليا تعمل البعثة اليونانية على دراسة هذا الاحتمال بالتعاون مع المجلس الأعلى للآثار، مضيفا «لقد قام مجموعة من الخبراء الأثريين برفع المقاسات وتوصيف الموقع تمهيدا لإجراء الدراسات المقارنة للتأكد من الأدلة التاريخية التي تشير إلى أن منطقة بئر مسعود هي مقبرة أثرية تعود لفترة وجود اليونانيين في الإسكندرية».