يوميات مراقب امتحانات

كشف عن تحول «الغش» إلى «صناعة».. ويستعد لموسم جديد من المغامرات

حتى المتفوقون في الدراسة لهم نوادرهم في الغش («الشرق الاوسط»)
TT

على مدار العام، يمارس محسن، وهو مدرس مساعد بقسم الإعلام بجامعة إقليمية بمصر، يومه بنظام محكم، يقسم وقته ما بين قاعات الدرس والجلوس في المكتبة، وبعض الترفيه، لكن لمرتين في العام ينسى شخصيته تماما ويتقمص شخصية المحقق البوليسي، ففترة الامتحانات التي تستمر لنحو شهرين، بالنسبة له، اختبار لمهاراته البوليسية، يجمع أكبر كم من المعلومات عن طرق الغش الحديثة من أصدقائه وطلابه القريبين إلى قلبه، يتقمص دور مفتش المباحث الشهير، شيرلوك هولمز، ثم يمارس الكر والفر بين الصفوف من أول يوم، ليردع الغشاشين، منطلقا من إيمان مطلق بتجريمه، مهما كانت دوافعه ومبرراته. في تحقيقات الشؤون القانونية بالجامعة كشف «حسام»، وهو الضحية الأولى لـ«محسن» هذا العام، عن تحول الغش إلى صناعة، فـ«البرشامة» التي ضبط وهو ينقل منها الأجوبة، اشتراها بعشرين جنيها، من مكتبة بجوار كليته، ضمن وسائل أخرى اعتادت المكتبات بيعها قبيل الامتحانات، ومنها «بوستر» شفاف، يكتب الغشاش على ظهره ما يشاء ثم يلصق على ظهر المنضدة، بشكل يخدع المراقب، فإذا باعت المكتبة 1000 من هذه الوسيلة، تضمن ربحا لا يقل عن 20 ألف جنيه (نحو 3.5 ألف دولار) يوزع منها ألفين على كاتب المذكرات والباقي يقسم على تكلفة المواد الخام وأصحاب المكتبة القائمة بالبيع. ويكتفي البعض بالوسائل التقليدية كالكتابة على المسطرة أو أغلفة الآلات الحاسبة أو أعضاء الجسد كالذراع، لسرعة نقل المحتوى المتوقع في كراسات الإجابة قبيل توزيع الأسئلة، وهي فترة آمنة نسبيا.. كما يلجأ البعض إلى ذكائه الشخصي، مثل «أحمد» الذي كتب قوانين الإحصاء بالقلم الرصاص على حذائه الأسود اللامع، مستغلا التفاوت في الإضاءة، فإذا وقف المراقب بجانبه حرك قدمه نحو الظل فيختفي كل شيء، وإذا ابتعد من جانبه عرضها للإضاءة القادمة من النافذة، فتظهر القوانين بوضوح، لكنه بعد سنوات من اعتياده على تلك الحيلة، بحسب اعترافه، قاده حظه العاثر إلى عيني «محسن» الذي لاحظ مراقبته للملاحظ بشكل مريب، فوضعه تحت حصار عينيه الواسعتين لأكثر من 10 دقائق، كان خلالها مختفيا في الممر، فتم «القبض عليه»، واقتياده للتحقيق، لكن المفارقة أن أداة الغش لا بد من التحفظ عليها، لمقارنة ما هو مكتوب عليها بما نقله في ورقة الإجابة، لتحديد درجة العقوبة، ومن هنا اضطر لخلع حذائه، والمشي حافيا، ثم وضعت فردة الحذاء أمام المحقق بشكل أثار الضحك، إضافة إلى بعض الاشمئزاز من رائحتها.

«أداة الجريمة» كانت سببا في مفارقات أخرى لا تقل سخونة، فأثناء اصطحاب المراقب «محسن» للتحقيق مع متهم آخر بالغش يدعى «عبد الحميد»، الذي كتب على سطح «التختة»، فما كان من «محسن» إلا أن أمر «الغشاش» بحمل التختة الخشبية العريضة، إلى مكتب الشؤون القانونية، بنفسه. أما «مجدي»، وهو محاسب انتسب لقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، في الأربعين من عمره، فخجل من التحقيق معه وهو كبير وسط طلاب صغار، حين تم اكتشافه وهو يغش من ورقة شفافة، فغافل الجميع، وانطلق يعدو وعمال الكلية خلفه، حتى قفز من أعلى السور ولم يعد للكلية أبدا.

الذكاء الشخصي الذي نال إعجاب لجنة التحقيق، و«استخسروه» في الشر، يعتمد في أحيان كثيرة على وسائل غاية في البساطة، مثلما فعلت «منى» طالبة السنة الثالثة بقسم الاجتماع، بعد استخدامها «البرشامة» المربوطة في «أستك» مطاطي، ملفوف على إحدى ذراعيها من أعلى، وفي حالة الخطر تتركه من يدها فيعود إلى مستقره أسفل ملابسها دون أن يلاحظ أحد. ويقول محسن إنه شك في هذه الطالبة، بعد تكرار عبثها بملابسها، فقام بتفتيشها ذاتيا على يد إحدى المراقبات، وانتهت مخاطرتها بالرسوب في نصف العام الدراسي بأكمله، إضافة للفضيحة المدوية التي سببتها لأسرتها وأقاربها، وانفصال خطيبها عنها بعد علمه بالأمر باعتبارها «لا تؤتمن على بيته مستقبلا».

حتى المتفوقون في الدراسة لهم نوادرهم في الغش.. اعتمد «طارق» المتفوق في اللغة الإنجليزية على طريقة سهلة للغاية كي يفيد زملاءه.. كان يقف في بداية الامتحان مدعيا أن هناك غموضا في ورقة الأسئلة، مكررا الإجابات الاختيارية بشكل متتابع على أساس أنه يقرأ من ورقة الأسئلة، مع أنه في حقيقة الأمر ينطق الإجابة، معتمدا على جهل المراقبين بحقيقة ما ينطق به باللغة الإنجليزية.

وأتاحت التكنولوجيا بدائل كثيرة للغش، منها تسجيل المنهج على جهاز كاسيت صغير أو موبايل يخفيه الغشاش تحت طيات ملابسه، ثم استدعاء الإجابة منه، أثناء الامتحان عبر سماعة صغيرة، يتم إخفاؤها أسفل النقاب للنساء، أو يغطيها الشعر الكثيف. وضبط «محسن» طالبا في الفرقة الأولى بقسم الفلسفة وضع سماعة الكاسيت أسفل الساعة ثم كان يضع يده على أذنه كأنه يسند رأسه عليها، لكن صوت الكاسيت كان أعلى من اللازم «فوقع المحظور».

أما آخر طبعات الغش الإلكتروني فكانت عبر تقنية «البلوتوث»، فرغم منع الموبايل في الامتحانات فإن البعض يصر على التجاوز، ويتسامح المراقبون نسبيا مع الأمر بشرط غلق الهاتف، لكن هناك من يُشغله، ولسوء حظه يرن الهاتف، وعند الذهاب لالتقاطه يكتشف المراقب واقعة الغش.

يقدم الدكتور هاشم بحري، أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس، تفسيرا لما سماه «شرعية الغش» في أذهان الغشاشين، فيقول: «مفهوم التعليم في مصر فقد مغزاه.. بالنسبة لكثير من الطلاب، يذهب إلى الامتحان وهو مشحون بالإحباط من المستقبل وإيجاد فرصة للصعود أو العمل بعد التخرج، إضافة إلى الإهانة المتوقعة في حالة رسوبه، فيعتبر الغش شرعيا».

ولم يقلل «بحري» من دور السياق العام الذي يعزز هذا السلوك السلبي، مثل تسامح بعض الأسر مع الغش، لو كان سبيلا للمجموع الكبير أو ممارسة الشخص للغش في أشكال متنوعة خلال حياته.

تفسير «بحري» كشف عن إجابات كثيرة ظلت غامضة أمام أسئلة المراقب «محسن» الذي يستعد لنيل الدكتوراه في الإعلام، فيقول: «المثير أن الطلاب يتعاطفون تماما مع الغشاش في حالة سقوطه، ويترجم هذا التعاطف على هيئة إلحاح بالعفو عنه، كما تمتد حالة التعاطف إلى المراقبين أحيانا، وتظهر عبارات من قبيل: «يعني هما هيتخرجوا يعملوا إيه»، و«سيبه يا بيه، ده أهاليهم غلابة، وهما اللي بيتعاقبوا»، ويتمادى بعض الطلاب فيبتهلون إلى الله: «ربنا على الظالم والمفتري»، رغم أن «محسن» لم يضبط نفسه ظالما في أي وقت من أوقات الامتحانات، بحسب تعبيره.

يقابل محسن في عمله اليومي كثيرا من حالات «التوهان»، ويشاهد يوميا طلابا يكررون «خطأه»، بفعل التوتر والوسوسة، لكنه يتذكر بشيء من الألم كثيرا من الطلاب يأتون للامتحان متأخرين عن الموعد، يسمح بدخول بعضهم إذا تجاوزوا الموعد بدقائق، متحملا العواقب على مسؤوليته، فالقانون لا يسمح بدخول أحد مقر اللجنة بعد مرور أكثر من ربع الساعة، لكنه يتسامح، ويضيف: «جاء طالب في الفرقة الأولى يبكي، بعد مرور ساعة على بدء الامتحان الذي كانت مدته ساعتين، وكان من المستحيل دخوله، تعاطف الجميع معه لأنه جاء من منطقة كفر الدوار البعيدة عن مقر الجامعة بما يقرب من 100 كيلومتر، وبرر تأخيره بتعطل القطار.. نصحته بالذهاب إلى الإدارة لاتخاذ إجراء يسمح له بحفظ التقدير عند إعادته المادة، لكن المفارقة أن نفس الشخص أتى في المادة التالية متأخرا أيضا، ولكن لثلث الساعة، ودخل، وأنا أضرب كفا بكف من تصرفه».

يكره «محسن» كثيرا شهر الامتحانات، وهو كره قديم منذ أن كان طالبا، ويقول: «الامتحانات تغير من ساعات نومي، وتذكرني بضغوط عديدة مورست علي طوال أربع سنوات كنت خلالها أنافس للحصول على المركز الأول في كليتي، ومن هنا أغفر للطلاب بعض النزق أثناء اللجنة، فبعضهم قد ينفجر منفعلا في المراقب لأنه أمره بتعديل جلسته، وعندما يذهب لاستطلاع الأمر من الممكن أن ينفجر الطالب في البكاء».

في أول يوليو (تموز)، لا يجد «محسن» سبيلا للتخلص من آثار موسم الامتحانات على عقله وجسده سوى البحر؛ هناك في الإسكندرية يلقى إجهاده في الماء ويسترخي لأسبوع، ينعم بزرقة البحر وصفاء السماء، بعيدا عن مغامراته البوليسية.