الملابس التقليدية في البلقان.. عراقة الصنعة وغرابة الاستخدام

جمال شمت لـ«الشرق الأوسط»: أشعر فيها بهويتي وأتصل بجذوري وأظهر من أنا ومن أين

ثمة حالات يرتدي فيها مسلمو البلقان الملابس التقليدية يوم الجمعة («الشرق الأوسط»)
TT

يجلس «ميهو» في مشهد فولكلوري على مدرج جامع تشارشيسكا بسراييفو، عاصمة البوسنة والهرسك، مرتديا الزي التقليدي والطربوش التركي، وواضعا سيجارة في فمه لا تلامسها يده إلا مرتين، عند وضعها وعند إلقائها، مرددا «حقيرة.. حقيرة.. تقبّلك الشفاه، ثم تدوسك الأقدام».

سر وجود «ميهو» في ذلك المكان الجميل حيث تغطي الزهور معظم جدران المسجد وسوره العتيق، لا تغيب عن المار من ذلك الشارع السياحي، وبنائه القديم الفريد، الذي يعود إلى القرنين الخامس والسادس عشر. إنه يمثل لوحده لوحة فولكلورية تغري السياح بتصويره، ومن ثم تقديم بعض المال له. الباحث الاجتماعي الدكتور آدم كلابيتش (38 سنة) قال لـ«الشرق الأوسط» في لقاء معه «يُلاحظ أن الزي التقليدي في البلقان لم يعد له وجود في الحياة اليومية للسكان، إلا في حالات محدودة، لكنه يظهر بقوة في الأعياد والمناسبات الإسلامية. وكذلك في الرقص الفولكلوري الذي ارتبط بالذاكرة الشعبية كتعبير ثقافي وجسر حضاري بين الأزمنة».

ويتابع «لكونه دليل عراقة وتجذّر في الزمان والمكان على حد سواء، على الأرجح، تعمد بعض المطاعم في البلقان أيضا إلى استخدام اللباس التقليدي كبدلات رسمية لنادليها. ولا يقف الأمر عند استخدام الملابس التقليدية للاستجداء أو الرقص أو الفندقة، وإنما يمتد إلى القضاء أيضا. فالقضاة في البلقان يرتدون ما يشبه الملابس التقليدية، ولا سيما، على مستوى الرقبة والظهر. وتصنع هذه الملابس في نفس معامل الزي التقليدي». ثمة حالات يرتدي فيها مسلمو البلقان الملابس التقليدية يوم الجمعة، مثل «سلطان» ـ اسمه الحقيقي جمال شمت (58 سنة) ـ و«سلطان» هو الاسم المفضل لديه تيمنا بالسلاطين العثمانيين، ولا سيما الذين حققوا للإسلام انتشارا في منطقة البلقان وآسيا الوسطى. ويقول «سلطان» في حوار معه «جدي وأبي كانا يرتديان هذا الزي، وإن كنت لا أعيش في جبتي مثل أبي، فإنني بالمقابل لن أنساها». وتابع أنه يرتدي الملابس التقليدية فقط كل يوم جمعة وفي الأعياد والمناسبات الإسلامية. وعن شعوره وهو يلبس هذه الملابس التي تصوّره كما لو كان مقاتلا من القرن الخامس عشر، أجاب «أشعر بهويتي، وأتصل بجذوري، وأظهر من أنا ومن أين». وفي رده على سؤال بخصوص الملابس التاريخية والقديمة التي يرتديها، قال «هذا يدل على أن القديم يتمتع بجودة عالية، ومهم جدا من الناحية الصحية. فالقدامى بهذا الزي لم يعرفوا العديد من الآلام والأمراض التي تسببها الملابس الضيقة المعاصرة. فالعبرة بالفائدة الصحية، ولا سيما بتاريخ الصنع أو العصر الذي وجد فيه هذا اللباس أو ذاك».

وعن موقف البعض حال رؤيته بملابسه التراثية قال «سلطان» بلا تردد «الناس يظهرون إعجابا منقطع النظير، فأنا أذكرهم بالأمجاد في عصور الانكسار، لحية بيضاء، وعيون سوداء، وصحة جيدة». ومن ثم حمل على النظام الشيوعي السابق الذي «حارب التقاليد، والمظاهر الإسلامية تحت لافتة الحداثة، ووصل الأمر إلى إطلاق أسماء غير إسلامية على أبناء المسلمين، وتشجيع الزواج المختلط ليفقد المسلمون شخصيتهم وهويتهم تدريجيا». وعن الوضع الحالي أفاد بأن «الكثير من الشباب يحرصون على ارتداء هذه الملابس عند الزفاف، وأنا بدوري أدعو الناس لهذا الزي من خلال ارتدائه والسير به في الشارع». وعما إذا كان يشعر بالحر هذا الصيف وهو يرتدي ملابسه العتيقة، أكد أن «هذه الملابس للصيف ولدي ملابس للشتاء، ولا أشعر بالحر أبدا». وتابع «لا بد من البحث عن القماش المناسب لإعداد وحدة متكاملة، القميص، والصدرية، والسروال، والحزام». مشيرا إلا أنه منذ 15 يونيو (حزيران) الحالي وحتى يوليو (تموز) القادم تقام احتفالات «ايفاتوفيتس» السنوية التي يرتدي فيها جميع المشاركين الملابس التقليدية ويمتطون الخيول المسرجة ويحملون الأعلام الخضراء. كما يتلى في المناسبة القرآن، وتردد الأناشيد والأهازيج الإسلامية. وتعود قصة الاحتفال إلى رجل صالح يدعى الجد «ايفاز» (عيواض)، عاش في القرن السادس عشر، ظل يصلي في المكان لمدة 40 يوما ويدعو الله أن يغيث الناس بعد قحط شديد فتفجرت الصخور ماءً حتى اليوم، وقد تم ذلك وفق أصح المصادر في 15 يونيو 1515.

ومن جهته، يقول محمد لبوتا، أحد خبراء صناعة الملابس التقليدية «هذه الصنعة تقليد عائلي ورثناه أبا عن جد وهي تعود إلى 250 سنة خلت». وذكر بأن زوجته وأمه تعملان معه في ميدان خياطة وتطريز الملابس التقليدية، لكنه اشتكى من قلة الإقبال على الشراء، فقال «من الصعب أن تجد من يحتفظ بارتداء الملابس التقليدية، والسير بها في الشوارع. لذا يقتصر الأمر على الفولكلور الشعبي وبعض الوظائف الأخرى، وهو ما زاد من نفور الناس لئلا ينظر إليهم كراقصين أو عاملين في المطاعم وما إلى ذلك». وعن سر احتفاظه بصنعته رغم قلة الإقبال، قال لبوتا «حب الصنعة أقوى مني، وهو الذي يجبرني على التواصل. وبالمناسبة أنا لست جائعا، لكنني في الوقت نفسه لم أكوّن ثروة». وعن الوقت الذي يستغرقه إعداد زي تقليدي أفاد بأن «الصدرية المطرزة سواء كانت نسائية أو رجالية تحتاج لشهر كامل من العمل اليدوي. فصناعة الزي التقليدي أكثر تعقيدا من الملابس الأخرى، لأن بعضها يحتوي على عدة قطع في الجانب الواحد». وعن الأسعار، قال إن «الصدرية بـ225 يورو والمعطف بـ400 يورو والقميص بـ15 يورو والسروال بـ200 يورو». طبعا، مع اشتداد الأزمة الاقتصادية، أصبح التفكير بشراء الملابس التقليدية الغالية الثمن ضربا من الخبال، ولذلك انحصر الشراء في المجالات آنفة الذكر، وفي رغبة السياح في الاحتفاظ بذكريات جميلة من البلقان وهو اختيار موفق بكل المقاييس. ويشرح لبوتا «أحيانا تمر 10 أيام دون أن أبيع شيئا، ولا أحد يفكر في الحفاظ على التراث الثقافي ولا يوجد من يهتم به.. لكن الأجانب يشترون الملابس التقليدية لأنها جميلة، ولأنهم يعلمون أنها عمل يدوي مقدّر ويثمّنون ذلك جيدا».