مصر: عبد العزيز.. ماسح أحذية لنصف قرن

يستعيد قاهرته الصاخبة «بذاكرة الأقدام»

عبد العزيز يعشق أسامة الباز، فهو زبون دائم يمر عليه كل فترة ويدفع بسخاء، كما يحترم دوره ويصر على الانتظار لو كان يسبقه أحد (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

تشبث بجلباب أبيه على مئات الكيلومترات، قطعها القطار من سوهاج حيث بلدته «الكوامل» إلى القاهرة وسوقها الصاخب «روض الفرج»، لكن الطفل الصغير تنبه بعد ساعات من الزحام والصراخ أن يده تمسك الهواء، وقرب المغرب ضبط نفسه باكيا جائعا، حاول الهرب من قبضة القاهرة الموحشة فخارت قواه تحت عجلات ترام، ففقد قدمه، ولم يشعر بنفسه إلا بعد أسبوع طريدا من المستشفى يتكئ على عصا متهالكة. لم يحاول العودة «للكوامل» خشية أن يسأله أبوه عن قدمه، حتى وإن حاول لم يكن يعرف أين طريقها وكيف يذهب، وهو لا يملك مالا ولا صحة.

لم يجد عبد العزيز، الذي يعمل منذ نصف قرن ماسحا للأحذية في القاهرة، أمامه سوى الشارع، امتهن جمع «السبارس» أي التقاط أعقاب السجائر من الأرض ثم بيعها بالكيلو. كان الكيلو ثمنه 20 قرشا، يبيعه لتاجر جملة في منطقة «كلوت بيك» في وسط القاهرة، أمنت له تلك المهنة عيشا على الكفاف، لكن منحته قدرا كبيرا من الهلع، مع نوبات الشرطة المفاجئة الباحثة عن المتسولين وأولاد الشوارع. كاد يقع ضحية الخلط، فبشكله الرث وقدمه الطائرة كان مؤهلا ليحظى بدور متسول بامتياز، ورغم بعده عن التسول إلا أنه وقع ضحية إحدى الحملات، لم يتمكن من الفرار، كان جزاؤه ثماني سنوات في مؤسسة اجتماعية لرعاية الأحداث.

في حلوان بأقصى جنوب القاهرة، قضى عبد العزيز أياما موحشة بالمؤسسة، لم ير أيا من أهله فلا يعرفون طريقا له، ولم يتعلم إلا مهنة صنع «مشايات» من سعف النخيل. قرب نهاية مدة وجوده هناك أدرك أنه تعلم المهنة الخطأ، لصعوبة تسويق منتجاتها، وقلة العائد منها في ذلك الحين، خرج من أبواب المؤسسة عام 1960 لتبدأ رحلة الضياع الثانية بحسب تعبيره، معه 13 جنيها هي مجمل مكافأته.

أشار عليه صديق له باقتناء صندوق خشبي لمسح الأحذية، نفذ الفكرة واستقر بمحطة باب اللوق بوسط القاهرة لربع قرن قبل أن ينتقل بصندوقه، إلى ميدان التحرير في منتصف الثمانينات.

بعد ترويض صندوقه على كيفية جلب لقمة العيش قرر عبد العزيز الزواج، ومن خلال أصدقائه تعرف على أسرة من «أبشواي» التابعة لمحافظة الفيوم (80 كيلو مترا جنوب القاهرة)، حكى لهم على ظروفه الصحية والمالية، عرضوا الأمر على ابنتهم، وافقت على الفور طالما هو قادر على إعالتها، دبر سريرا ودولابا وكنبة، واستقر الزوجان في منطقة إمبابة شمال الجيزة، وأثمر الزواج عن صالحة ومحمد ومحمود وعرفة.

بعد زواجه، ذهب عبد العزيز تاركا الصندوق ومتكئا على قلب زوجته إلى الكوامل، كان أبوه وأمه على قيد الحياة، ظن الجميع أنه مات، احتضنته أمه بلهفة العائد للحياة، قبل أن تتفحص جسده وتلمح قدمه الغائبة، عاتبه أبوه بدفء على طول غيابه، ثم قضى يومين هناك، وعاد ليستكمل حياته الجديدة.

في جلسته الممتدة من السابعة صباحا حتى منتصف الليل طوال نصف قرن، ازداد عبد العزيز وعيا بأشياء كثيرة، وحفلت ذاكرته بأحداث صاخبة، يتذكر ما جرى في يناير (كانون الثاني) 1977، وهي الأحداث التي أطلق عليها السادات انتفاضة الحرامية، وأطلق عليها خصومه انتفاضة الجوعى: «كنت في ميدان باب اللوق، رأيت الناس بالمئات يحطمون كل ما يقابلهم، ويرشقون السيارات العامة بالحجارة، خدتها من قاصرها ونمت وراء السور، واستخبيت، وبعد أسبوع خطب السادات وقال إنه هيرجع الأسعار زي ما هي باستثناء السجائر عشان مضرة للصحة».

لوجوده في سُرَّة القاهرة وهي ميدان التحرير، يتقاطع عبد العزيز في يومه مع السياسة.. مواكب مسؤولين ومظاهرات وجنازات لشخصيات مهمة تمر من أمامه، لكنه يخشى المظاهرات، لأنها «تقطع العيش، وبتجيب القلق»، كما يكره السياسة وألاعيبها، ورموزها، فقط كان يحب عصر عبد الناصر لأنه «متواضع وحاسس بالغلابة، وكانت الحاجة رخيصة»، كما يعشق أسامة الباز المستشار السياسي لرئيس الجمهورية، فهو زبون دائم، يمر عليه كل فترة، ويدفع بسخاء، كما يحترم دوره ويصر على الانتظار لو كان يسبقه أحد، ولا تجدي محاولات الزبون الآخر تقديمه عليه، «راجل محترم ويدينا اللي فيه النصيب كل فترة، ربنا يكرمه».

ومثلما يكره السياسة يكره هجمات البلدية المباغتة، فهي من جانب تذكره بلحظات صعبة مر بها طوال حياته، كما تعرضه لفقدان صندوقه وزبائنه، وبعد احتجاز لساعات من الممكن أن يسترد الصندوق بعد دفع الغرامة، أو لا يسترده، وهنا يقترض 100 جنيه من بائع الجرائد المجاور لصنع غيره، وهكذا تدور الدائرة.

طوال خمسين عاما مسح عبد العزيز ملايين الأحذية، ومع خبرته الطويلة أصبح خبيرا في الفحص الطبقي لزبائنه، فمن نوعية حذاء الزبون يتوقع الأجر الذي سيحصل عليه ومقدار البقشيش، كما أن نظرته لنوعية الجلد لا تخيب، لكنه يفضل «صنعة زمان» لأن الأحذية كانت تفصل يدويا، وكان العامل يتقن صنعته بشدة لأن تسويقه يعتمد على السمعة وحديث الزبائن عن جودة سلعته. يستطرد عبد العزيز قائلا: «زمان كانت المسحة بقرش، دلوقتي بجنيه، بس الحياة صعبة، ومبقتش زي الأول». يتحصل عبد العزيز في يومه على 20 جنيها صافية، لكن عليه أن يدفع إيجارا شهريا قدره 200 جنيه، إضافة إلى 285 جنيها هي أقساطه الشهرية لمدة 20 شهرا، نظير جهاز ابنته «صالحة» التي تزوجت منذ 4 أشهر.

أما ابنه محمد فيعمل نجارا، وابنه عرفة يتاجر في الأحزمة ويتاجر ابنه محمود في إكسسوارات الموبايل، كل منهم استقل بنفسه اقتصاديا، وبقي عبد العزيز يعول نفسه وزوجته أيضا ويسدد أقساط أختهم.

اختفت الآن وحشة القاهرة التي جربها عبد العزيز منذ 65 عاما، أصبح يشعر بالغربة إذا زار مسقط رأسه «الكوامل» كل عدة سنوات لأداء واجب عزاء أو مشاركة في فرح، بتقدم العمر وضعف النظر، وإنهاك الجسد ابتعدت المسافة أكثر، وبموت معظم الأقارب، أصبحت الزيارات أكثر ندرة، ازداد التصاقا بميدان التحرير، نسي قدمه التي قطعت، بعد أن أعانه أهل الخير على شراء جهاز تعويضي، يستند إلى ظهر جدار محطة المترو إذا شعر بالتعب ثم يستعيد نشاطه وحيويته مع كوب من الشاي الصعيدي المنعش، قبل أن يطلق صيحته العذبة التي يكررها منذ خمسة عقود.. «تلمع يا بيه».