مصر: مدينة الحرفيين.. غرفة «إنعاش» ذكية للسيارات

شعارها الذمة والضمير وراحة الزبون

TT

طريق ملتو يتفرع من بداية طريق مصر ـ الإسماعيلية الصحراوي بشمال شرقي القاهرة يقودك إلى قلب «مدينة الحرفيين»، حيث تدخل السيارات إلى المكان وهي تعاني أعراض الشيخوخة والإنهاك، وبعد أن تتلقى العلاج الذي قد يستمر لساعات، أو بضعة أيام، تخرج السيارات إلى الحياة، وقد استردت عافيتها، وكأنها كانت في فترة نقاهة من الجري واللهاث على الطرقات، التي لا ترحم تحملها وصبرها على التعرجات والمنحنيات والحفر والمطبات، وغيرها من العوائق التي لا تسلم منها الطرق في مصر.

عند دخولك إلى المكان تصك أذنك دقات «السمكرية» العشوائية المرتجلة، وكأنها تبحث عن إيقاع هارب، في تجاويف شرخ، أو التواء، أو ثقب داهم السيارة في واقعة تصادم، أو حادث سير. وسوف تزكم أنفك روائح مختلطة من «الدوكو» والشحوم والزيوت.. أعداد من السيارات المتهالكة والمشوهة جنبا إلى جنب مع أفخر وأحدث الموديلات، وأخرى تكاد لا تدري لها نوعا أو أصلا، بل لا وجود لها في أي كتالوج سيارات عالمي! بيوت مدينة الحرفيين شعبية فقيرة، تحتل أدوارها الأرضية ورش الإصلاح والتجديد ومحلات بيع قطع الغيار الجديدة والمستعملة، في شوارع طولية متعامدة يرتادها آلاف البشر يوميا بحثا عن الرزق والعمل بها، أو عمل «عَمرة» إصلاح وتحديث للسيارات. أنشئ هذا الحي (المدينة) في بداية التسعينات، كما يذكر عم صبحي أبو الوفا، أحد أقدم التجار في المكان، كمنطقة صناعية وسكنية في الوقت نفسه حتى يسكن العمال بالقرب من أعمالهم. وبسؤاله عن مزايا وعيوب تجمع تجار للسلع نفسها بجوار بعضهم بعضا، ومدى تأثير التنافسية على علاقاتهم، أجاب «الرزق دا حاجة من عند ربنا، وهذا الوضع في صالح الزبائن، فهو يساهم في عدم رفع الأسعار بصورة مبالغ فيها، كما أنه يفيد أصحاب الورش أيضا لأنهم يكونون فيما بينهم ما يشبه الرابطة أو النقابة، فلا يغشهم تجار الجملة أو المستوردون.. اللمة حلوة، وهم يعلمون بكل جديد في السوق فور حدوثه، فدائما هم (Up to date)»، قالها وهو يضحك.

يتفرد المكان بكونه حيا متكاملا متخصصا في كل ما يلزم السيارات من مختلف الطرازات، مما يغري أصحاب السيارات بالقدوم، كما يقول أحمد فهمي، أحد رواد المكان «أكثر ما يميز هذا المكان هو توفر كل شيء أحتاجه أثناء إصلاح سيارتي، حتى إنني لا أضطر إلى إضاعة الوقت في شراء أي شيء من الخارج». ويعلق جمال عبد الله، صاحب متجر لبيع قطع الغيار الجديدة، قائلا «وجود كل احتياجات السيارة في مكان واحد يوفر على الزبائن الوقت والمجهود، كما أن الطبيعة التنافسية تجبر مقدمي الخدمات على التعامل مع الزبائن بأسعار مثالية، مما يوفر أيضا من الناحية المادية لأصحاب السيارات، ولذلك فإن مدينة الحرفيين قد أصبحت الوجهة الرئيسية لأصحاب السيارات في القاهرة».

يلفت النظر أيضا وجود سوق نشطة لتجارة قطع الغيار المستعملة، والتي تلاقي إقبالا شديدا بين أصحاب السيارات المتوسطة والفاخرة على السواء، لرخص أثمانها، مقارنة بالقطع الجديدة. وهو ما يشير إليه طارق محمود، صاحب سيارة، قائلا «أمتلك سيارة ألمانية الصنع وقطع الغيار الأصلية أحيانا يكون سعرها في غير متناول يدي ـ خاصة إذا كنت في نهاية الشهر ـ ولذلك ألجأ إلى قطع الغيار المستعملة التي يكون سعرها أقل من نصف الثمن، وقد تعوضني عن القطع الجديدة لفترة من الزمن، شريطة أن أشتريها من أصحاب المتاجر موضع الثقة، لكثرة حالات الغش في مثل هذه المواضيع».

يؤكد هذا المهندس سيد محمد، صاحب ورشة إصلاح ومتجر لقطع الغيار المستعملة، ويضيف قائلا «أشتري قطع الغيار المستعملة في شحنات قادمة من دبي وأوروبا، وأتعامل هناك مع شخصيات محترمة للتأكد من مصادر هذه القطع، حيث إن الغش في هذه المسألة قد يعرض حياة الناس للخطر، ودائما أجري الاختبارات على هذه القطع قبل وبعد تركيبها للتأكد من صلاحيتها وجودتها مع ضمانة عدم الدفع من قبل العميل إلا بعد الرضا التام عن جودة الخدمة». كلام محمد يكشف عن عرف مهني سائد في مدينة الحرفيين، قلما تجده في مدينة حرفية أخرى هو «الذمة والضمير»، فحسبما يروي محمد علي «بدأت أستخدم قطع الغيار المستعملة بعد أن تعرضت لعملية غش تجاري، حيث اشتريت قطع غيار جديدة وأصلية لسيارتي، تحمل أختام الشركة المنتجة، ثم اكتشفت بعد فترة أنها مقلدة ورديئة جدا وتسببت في مشاكل كثيرة بالسيارة، ومنذ ذلك الحين وأنا ألجأ لمدينة الحرفيين، فالمستعمل هنا مضمون أكثر، كما أنه أرخص كثيرا من أماكن أخرى».

ويقول محمد كريم، مفسرا سر وجود عدد كبير من السيارات الحديثة جدا «أمتلك سيارة حديثة وأتعامل هنا مع ورشة متخصصة في هذا النوع لإجراء الصيانة الدورية، أو إصلاح أي عطب طارئ، وجميع العاملين هنا يعملون بالتوكيل الرسمي للسيارة في مصر وعلى درجة عالية من الكفاءة والخبرة والتدريب، ويشترون قطع الغيار من التوكيل بأسعار خاصة، ويعيدون بيعها لنا، مما يجعل التكلفة الإجمالية أقل من النصف. فلماذا أذهب إلى التوكيل، خصوصا أن التوكيل خارج المدينة ويحتاج إلى تفرغ كامل وحجز مسبق قد يمتد إلى أكثر من شهر».

وفي أحد الشوارع يقف حمدي السيد، أخصائي سمكرة السيارات، كفنان تشكيلي يتأمل صنعة يديه بين حين وآخر، كما يكتسي وجهه بعلامات عدم الرضا، حين يهم مصححا خطأ أو آخر، يقع فيه أحد الصنايعية، وفي الخلفية تصدح كوكب الشرق برائعتها «أغدا ألقاك»، فيحاول مجاراة إيقاع الأغنية بمطرقته الصغيرة في مهارة تلقائية فائقة كما لو كان عازفا في أوركسترا!.. أقترب منه مترددا مخافة قطع «الوحي» عنه، لكنه رحب بي بابتسامة عريضة.. وعن عمله وسر شهرته بالفنان. يقول «حصلت على هذا اللقب بعد إصلاحي لسيارة مهشمة تماما، وقال الجميع لصاحبها وقتها (البقية في حياتك!)، وطلب التوكيل منه مبلغا يعادل ثمنها تقريبا لإصلاحها، فأخبرته أن يمر علي بعد أسبوعين، فأدخلتها (العناية المركزة) في ورشتي، وذهل الرجل وكل من شاهد السيارة بمهارتي ودقة الصنعة. وعندما أخبرته أن التكاليف أقل من ربع ما طلب منه في التوكيل منحني ألف جنيه زيادة على سبيل المكافأة، ومن يومها ولقبي أصبح (الفنان)».

أما عن زبائني فهم نوعان. أحدهما ضحايا الحوادث الشديدة، كما ذكرت، والآخر ـ وأكثرهم من الشباب «الروش» ـ هم راغبو التعديل للسيارات، الذين يطلبون تغيير شكل سياراتهم، والتي في الغالب ما تكون قديمة ورخيصة الثمن، فيحب صاحبها أن يجعل منها شيئا متفردا ومميزا. وعندما يلجأون إلي أعمل مثل أطباء التجميل الذين يحولون الشمطاء إلى بدر البدور».

وباستطلاع رأي رواد المكان عن سر نجاحه ورواج سوقه يقول سامح حسين، مالك سيارة: «سبب نجاح المنطقة هو طبيعة الشعب المصري الذي يميل إلى الإصلاح بدلا عن التغيير، نظرا لظروفه الاقتصادية، ويختلف في ذلك عن المواطن الأوروبي مثلا الذي يستخدم السيارة لمدة معينة حسب القانون، ثم يبدلها بأخرى جديدة، ثم إن أسعار السيارات الجديدة مرتفعة نسبة إلى مستويات الدخل». ويؤكد صديقه يوسف سليمان المعنى نفسه، مشيرا إلى أن بعض السيارات في الشوارع المصرية يعود تاريخ صنعها إلى الستينات من القرن الماضي، وقد تكون بحالة جيدة، وهو الأمر الذي لا يوجد له نظير في أي مكان آخر في العالم! ويختتم كلامه ـ وهو بالمناسبة باحث في التاريخ ـ قائلا «الأسواق المجمعة فكرة قديمة جدا نشأت في أثينا وتطورت في العصور العربية، حيث أقيمت أسواق الحبوب والذهب والمنسوجات وخلافه في شوارع عرفت باسم المباع في هذا السوق، مما أدى إلى رواج التجارة ومنع الاحتكار، وهذا هو سر نجاح مدينة الحرفيين التي تستحق عن جدارة لقب «واحة طب السيارات في مصر».