آخر سيوفيي دمشق يصارعون للبقاء بترميم القديم

لم يبق غيره وولديه يعملون فيها.. بعدها المهنة نحو الانقراض

السيوفي أبو فياض في محله («الشرق الاوسط»)
TT

اشتهرت مدينة دمشق منذ العصور الوسطى بمهارة حرفييها في تصنيع السيوف التي أخذت طريقة خاصة وسرا لم يعرفه سوى أصحاب المهنة سميت «الفولاذ الدمشقي» أو «الستانلستيل داماس». ولعبت هذه السيوف التي عرفت بقوتها وحدتها دورا كبيرا في معارك المسلمين في الحروب الصليبية، وحاول الأوروبيون معرفة سر صناعة هذه السيوف.

وتذكر المصادر التاريخية أن هذه المهنة بدأت في الاغتراب عن دمشق بعد الغزو التتري، حيث جمع تيمورلنك معظم صناع السيوف الدمشقية العريقة ونقلهم إلى بلده، لتنتشر صناعة السيف الدمشقي في بخارى وطشقند وسمرقند، كما فعل مع الكثير من الحرفيين الدمشقيين المهرة في مجالات أخرى اشتهرت بها دمشق. ولذلك ما زال أحفاد هؤلاء يعيشون في تلك البلاد ويحملون ألقابا وكنىً مثل آل السيوفي والخياط والحداد.

ومنذ مئات السنين عرف لقب العاملين والحرفيين في مهنة تصنيع السيوف الدمشقية بـ«السيوفي»، وطغى اللقب على الاسم حتى باتت عائلات وأسر دمشقية ـ من الذين تخصصوا في هذه المهنة ـ تحمل هذا اللقب المعبر، ولكن مع ظهور الأسلحة المختلفة في العصور الماضية، وانتهاء دور السيف كسلاح في المعركة، بدأت هذه المهنة في الانقراض، ولم يعد آل السيوفي يعملون بها، بل تحولوا إلى مهن وأعمال أخرى تتناسب والعصر.

ظل السيف الدمشقي العريق شامخا، ولكن كنصب تذكاري يزين ـ ومنذ نصف القرن ـ جانبا من ساحة الأمويين بالقرب من دار الأوبرا، ولتخليده سميت إحدى ساحات ضاحية جرمانا قرب دمشق بساحة السيوف، حيث تتعانق في وسطها نماذج منحوتة من المعدن للسيوف الأصيلة. والزائر حاليا لسوق مدحت باشا، والطريق المستقيم في دمشق القديمة، على الرغم من وجود مئات المحلات المتخصصة بالشرقيات والمنتجات اليدوية الدمشقية المعروفة وتعدد العاملين بها، فإنه سيكتشف ـ فيما لو أراد البحث عن سيوفي دمشقي ـ متخصصا في السيف الدمشقي.

وبعد بحث طويل بين المحلات التراثية هناك محل واحد فقط متخصص بهذه المهنة المنقرضة، وما زال يطلق على محله «السيوفي». ولكن ليس في تصنيع السيوف الدمشقية المعروفة، بل بترميم وإصلاح ما تبقى منها. فالداخل لمحله سيشاهد عشرات السيوف المعلقة على جدران محله، ولكن سيخبرك سليمان علي السيوفي (أبو فياض) أن معظم هذه السيوف الدمشقية الأصيلة هي في محله ليرممها ويصلحها ويعيد لها رونقها، وهي تعود لأشخاص إما ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، أو بسبب هواياتهم في اقتناء الأشياء القديمة اشتروها من بائعي الأنتيكات. وأبو فياض ورث هذه المهنة عن أجداده منذ مئات السنين. وكما قال لـ«الشرق الأوسط» إنه حاول المحافظة عليها وهو يصارع العمر، حيث تجاوز السبعين عاما مع شقيق له ما زال يعمل مثله بها في منطقة قريبة من سوق مدحت باشا. فقرر توريثها لولديه، وأحدهما يعمل معه في المحل، فيما الثاني يدير محلا في سوق التكية السليمانية للمهن اليدوية بدمشق. وولداه اللذان لم يردا رغبة والدهما قررا عدم توريثها، وبقرار نهائي، لأولادهما لتندثر مهنة السيوف وليبقى أبو فياض وولداه (فياض وعبد القادر) يعملان حاليا على أعمال الترميم لما تبقى من هذه السيوف العريقة، وتصليح الخناجر والدروع التراثية.

كذلك يقومون بتطعيم السيوف والغلاف بالذهب أو الفضة، أو تغلف بالكامل من الفضة. ويقول أبو فياض إن هناك في السوق الكثير من السيوف المقلدة للسيف الدمشقي وتباع للهواة لتعليقها في الصالونات للزينة، ولكن قلة فقط من الناس يمتلكون السيف الدمشقي الأصيل، وهذه أسعارها مرتفعة تبدأ من 50 ألف ليرة سورية (نحو ألف دولار أميركي)، في حين أن سعر السيف المقلد لا يتجاوز سعره عشرة آلاف ليرة.

ويأسف أبو فياض عما حصل للكثير من هذه السيوف التي كانت موجودة بكثرة لدى الأسر الدمشقية، ولكن «لم يعرفوا قيمتها التاريخية والتراثية فقاموا برميها والتخلص منها، وأعرف أحد الأشخاص، قبل نصف قرن ورث عن والده عددا من هذه السيوف، فقام وهو يبني بيته من الأسمنت بوضعها ضمن أساسات منزله، وصب عليها (الباطون)، وأنشأ فوقها درج منزله».

ويتذكر أبو فياض كيف كان والده وجده يصنعان السيوف الأصيلة في ورشتهما، وكان صغير السن حيث كان هناك فرن في الورشة لصهر «البولاد»، وهو مادة السيف الأساسية، وكانا يضيفان إليه أشياء نباتية. وما ميز السيف الدمشقي، خفة وزنه وصلابته ومتانته ومقاومته لدرجات الحرارة المرتفعة. وشكل السيف الدمشقي مميز ويمكن اكتشافه وتمييزه من بين كل أنواع السيوف الأخرى. مقابض السيف تصنع حسب رغبة الزبون، فهناك مقابض من العاج أو من عظم الجاموس أو وحيد القرن، وعرض السيف ما بين 35 و38 ملم، والطول ما بين 85 و93 سم. وكان السيف يصنع على مراحل، ومن قبل عدد من الورش، يقول أبو فياض، الذي يتذكر أنه كان هناك 20 حرفيا مصطفين بانتظام، كل واحد يعمل في جزء من السيف، وبالتناوب، حتى يصل لآخر حرفي فيكون السيف جاهزا، ويكون لونه قاتما، وله عنصر خاص يسمى «جوهر الحديد». وكان السيف يوضع في غلاف خشبي مصنع خصيصا له، وهو إما من خشب الجوز الذي يلبس بالفضة وتكتب عليه عبارات معينة، حسب طلب الزبون، وبمختلف فنون الخط العربي، أو رسومات، وكذلك يكتب على نصل السيف. أو يصنع من خشب الشوح. وحاليا لدى أبو فياض أدوات الترميم فقط، وهي أدوات التلحيم والحدادة القديمة. وأعمال الترميم تتم جميعها بشكل يدوي. وأسأل أبو فياض عن الأرباح التي يحصل عليها من عمل الترميم اليدوي للسيوف، فيضحك مجيبا بمثل شعبي معبر يقول «بتركض بتركض والعشا خبيز».