الفقراء يستدينون ليحصل المنجمون على ثرواتهم

قراءة الطالع.. تسلية أم مرض؟

البعض يعتقد أن المنجّم قادر على قراءة أفكاره، حتى إنه يعتمد عليه ليحصل على الأمان النفسي عندما يكون متوترا (رويترز)
TT

«مستقبلك يا بني سيكون ناحجا في مجال الهندسة. ستعمل في أهم الشركات العربية وتشارك في أكبر المشاريع العمرانية»، تصمت قارئة الطالع أم حسين قليلا. تنظر إلى محدثها بتركيز كامل لبضع ثوانٍ وتقول: «ستتزوج بعد سنتين ويكون لك ثلاثة أطفال مثل القمر». ثم تتوقف عن الكلام وتنتظر بعض النقود الإضافية. يناولها عشرة آلاف ليرة لبنانية (ما يقارب سبعة دولارات)، فتتابع: «أرى أنك تواجه بعض المشكلات العائلية والعاطفية ولكنك ستتغلب عليها قريبا وستصبح كل الأمور إيجابية وأفضل مما كانت عليه من قبل. أرى أن أصدقاءك لا يسألون عنك بشكل منتظم. وهذا أمر يزعجك كثيرا وسيدفعك إلى التفتيش عن أصدقاء جدد».

قبل الاستطراد في حكاية أم حسين، لا بد من الإشارة إلى أن محدثها أعطاها معلومات لا أساس لها من الصحة. هدفه ليس قراءة طالعه، إنما معرفة أساليب «البصّارين» الذين تحولوا ظاهرة في معظم الأماكن العامة في بيروت. لكن هذه المعرفة لا يمكن أن تتم إلا عبر «تبييض البخت» لأن «البصارة» لا تملك وقتا للأحاديث المجانية. تتابع: «أما الناحية الجامعية فهي جيدة جدا وسوف تنهي مشوارك الجامعي دون أن ترسب في السنوات المقبلة. لكنك ستواجه بعض المشكلات في السنة المقبلة». بعد ذلك تمسك أم حسين كف محدثها وتشير إلى خط طويل تقول إنه خط العمر، ما يبرهن أنه سيعيش طويلا. فالموت المبكر بعيد عنه. وتضيف: «لكنك ستمر بفترة ستنتكس فيها صحتك وستواجه الكثير من التعب الجسدي والإرهاق، ولكنه ليس بالأمر المهم. سوف تحصل على الكثير من الأموال بعد إشارتين. قل إن شاء الله». الإشارتان في قاموس أم حسين هما يومان أو ساعتان أو ربما شهران. وقد تمتد المهلة لتصل إلى السنتين. تتوقف عن الكلام مرة ثانية. تنتظر بعض الأموال. وعندما لا تصل إلى مبتغاها تتابع سيرها بين طاولات المقهى وتصيح: «بصّارة.. برّاجة». لحقها الشاب وقال لها: «عفوا يا أم حسين. أنا لست مهندسا ولا أدرس الهندسة. ولا علاقة لي بالهندسة، ولا أعاني مشكلات عائلية ولا حتى عاطفية. أصدقائي يسألون عني دائما ولست بوارد التفتيش عن آخرين. من ناحية العمر، كلنا نعلم أن الأعمار بيد الله. قولي إن شاء الله». بالطبع أم حسين لم تردّ. حاولت الابتعاد عن المكان و«اصطياد» من يصدق تبصيرها وتنجيمها. وهي لن تعدم الزبائن، ذلك أن الكثير من الأشخاص يؤمنون بالأمر، أو يدفعهم فضولهم لمعرفة الغيب، سواء بقراءة الكف أو قراءة الفنجان «فنجان القهوة». والبعض يعتقد أن المنجّم قادر على قراءة أفكاره، حتى إنه يعتمد عليه ليحصل على الأمان النفسي عندما يكون متوترا. وفي حين تغيب الإحصاءات عن الذين يقصدون المنجّمين أو جنسهم أو فئاتهم العمرية تبقى العلاقات بين المرأة والرجل هي أكثر المواضيع التي «يسترزق» منها البصّارون، يليها البحث عن علاجات تخلص بعض المرضى النفسيين من اضطراباتهم، وبالتأكيد مشكلات الانتخاب والنجاح في العمل تدخل ضمن العناوين.

تقول رئيسة قسم علم الاجتماع في جامعة القديس يوسف في بيروت رلى خوري لـ«الشرق الأوسط»: «نحن في عالم يتجه أكثر فأكثر إلى نوع من العقلانية في التصرف، تحديدا لأن العلم تطور كثيرا، حتى إنه فسر الكثير من الظواهر. هذا الأمر ساعد في رفض السحر والماورائيات لمصلحة التطور العلمي. إلا أن هذه النظرية لم تثبت صحتها بشكل كامل، فغالبية علماء الاجتماع لاحظوا أن الإنسان يبحث دائما عن الأشياء التي تسحره وتجعله يتخطى الواقع. ومن أهم الأمثلة على ذلك ألعاب الميسر واليانصيب، وكذلك الذهاب إلى المنجّمين والمشعوذين. السبب يكمن في العطش الموجود عند الإنسان لمعرفة الغيب، وهو أمر مرافق للطبيعة الإنسانية التي يحاول صاحبها التفتيش عن أمل أو يسعى للاطمئنان فيسأل عن الأمور التي تقلقه ويفتش عن تلك التي تريحه». وتضيف: «أنا لا أعتبر البحث عن الغيبيات ظاهرة مرتبطة بالبلدان النامية فحسب، ذلك أنها ترتبط بالطبقات الاجتماعية بشكل مباشر. وكلما ازداد فقر الإنسان ازداد تمسكه بهذه الظاهرة. في لبنان اللجوء إلى ذلك مقبول نسبة إلى غيره من الدول العربية. إلا أن ذلك لا يعني أن الأغنياء يتورعون عن مثل هذه السلوكيات».

وتعتبر خوري أن «هذه الظاهرة خطيرة، فالفرد الذي يتمسك بها يصبح عضوا غير فاعل في مجتمعه ولا يعود وضعه العقلي سليما ويتحول أسير المنجّم الذي يسلبه إرادته إلى أقصى الحدود. أما الأشخاص الذين ينظرون إلى هذا الأمر من ناحية التسلية، فيمكن أن تبقى تسليتهم هذه مقبولة ومتوازنة. لكن الخوف مزروع فينا، ما يقرن التسلية بخوف مستمر. كأن يقلق من يقول له قارئ الطالع، مثلا، إن علامة خطيرة قد تعترضه، فيخاف على حياته».

ما تقوله خوري واقع، وإن كان غير شائع بشكل مرضيّ في لبنان. لكن غالبا ما ترد في صفحات الحوادث في الصحف اليومية أخبار عن مشعوذين استطاعوا سرقة «زبائنهم» أو حتى إلحاق الضرر الصحي والجسدي بهم. والمفارقة أن شيوع هذه الظاهرة في أوساط الفقراء يرغم هؤلاء على الاستدانة أحيانا لدفع تكاليف «البصّارين»، كما هي الحال مع إحدى النساء التي باعت مصوغاتها، ثم استدانت من شقيقها مبلغا كبيرا من المال لتحصل على علاج من «شيخ المنجّمين»، علها تحمل. فقد أفهمها الشيخ الذي قرأت اسمه ولقبه وعنوانه في نشرة للإعلانات المبوبة، أنه قادر على شفائها من العقم الذي تسببت به لها غيرة جارتها الحسود.

تقول خوري: «في الواقع يصبح المنجمون أغنياء في فترة قصيرة، ذلك أن بعضهم يتحولون بفضل وسائل الإعلام إلى مشاهير. ويقصدهم عدد من السياسيين. كما أن الكثير من محدودي الدخل يلجأون إلى الدين لتسديد فواتير المنجّم». وتضيف: «الكثير من التوقعات يتحقق، والسبب ـ كما يقول عالم الاجتماع وليام توماس ـ أن الأشخاص عندما يعتقدون أن التوقع صحيح يعملون على تحقيقه في لا وعيهم».