الطائرات الورقية.. مسرح مفتوح لأطفال الأحياء الشعبية في القاهرة

«طيري يا طيارة طيري.. يا ورق وخيطان»

الطائرات الورقية لا تزال بخير، ولم تغادر سماء الأحياء الشعبية بعد، تقاوم المتع الكسولة ومقاهي ألعاب الفيديو («الشرق الاوسط»)
TT

مسرح مفتوح يشغله كل صيف أطفال الأحياء الشعبية في سماء القاهرة، ويتبارون في تنويع مفرداته وعالمه بخيوط وألوان طائراتهم الورقية البسيطة، صانعين جزرا من الأحلام الغضة، والمتع البريئة، تتجاوز حدود الأزقة والحواري المتربة الفقيرة، وتحلق نحو أفق بعيد شغفا بالحرية والبراح. فقبل غروب الشمس يختار فارس مكانا لإطلاق طائرته. أحيانا عند «نفق السبتية» في حي القللي، وغالبا من فوق سطح منزله. يعرف فارس عن ظهر قلب متاهات الحي، فقد ولد هناك واجتاز أحد عشر صيفا أضافت لقامته قليلا، غير أن هذا الفتى النحيل القصير يقودك ببراعة عبر دروب حيه ليعرفك على محبي هذه الهواية التي ورثها عن والده الذي يعمل بواحدة من ورش الخراطة.

ببراءة تعرف منه أنه اجتاز بنجاح مرحلة «الدبور»؛ وهو نوع من الطائرات الورقية التي تصنع كاملة من الورق، خيطها رفيع ولا تحتاج لمهارة خاصة في صنعها، إلا أن تقنيات تطييرها ليست سهلة، ثم إنها لا تذهب بعيدا. و«الدبور» خطوة أولى للأطفال من أجل دخول عالم هذه الهواية، إنها أشبه بطائرات التدريب، بعض الأطفال لا ينجح في إطلاقها إلا بالعدو، لكن آخرين، ومنهم فارس، يملكون مهارة إبقائها في الهواء مدة غير قصيرة.

لا يصرح فارس بكثير مما يحمله بداخله، إنه يختال بطائرته الورقية المصنوعة من أعواد البوص «الغاب» وليس من جريد النخل كما هو شائع. يعلنها بحماس يشي بطفولة، لكنه كعادة أطفال المناطق الشعبية تعلم أنه يخفي ملامح طفولته في ظلال عينيه المتخابثتين، إذ هي لا تحمل في قاموسه قيمة إيجابية.

شكل سداسي الأضلاع يشد إلى بعضه بالخيط، تقطعه ثلاثة أوتار تتقاطع في بؤرة انتصافه، منها يخرج الخيط الأول في مثلث الخيوط الذي يقيم ميزانها، إن اختل فلا أمل في الطيران. يكسوه ورق شفاف ملون بالأحمر والأخضر والبرتقالي والأبيض، أو ما شئت من ألوان «الأفرخ» التي تستخدم في تغليف كراسات الأطفال في المدارس، فما أن ينقضي العام الدراسي، حتى تتحول هذه الأغلفة إلى مواد خام لصناعة الطائرات، أما طول الذيل، المزين بقصاصات الورق الملون، فيحكمه حجم الطائرة الورقية ولا شيء آخر.

رمضان صديق فارس رغم أنه يتجاوزه بسنوات تفوق عمر الأخير، إلا أن علاقتهما بدأت عبر سماء الحي في تحدي «التعلية». كان رمضان قد توقف منذ سنوات عن هذه الهواية بعد أن استغرقته «غية الحمام»، يطلق حمائمه إلى الفضاء ويظل يراقبها ساعة أو يزيد وفي يده علم أحمر وصافرة. لكن بعد أن تحول البرج إلى طلل بعد إنفلونزا الخنازير عاد مرة أخرى لممارسة هوايته «ساعة العصاري».

لم يفكر رمضان في أوجه الشبه بين «الغيتين» إلا بعد عودته من جديد لطائرته الورقية. يقول «طول عمري من وأنا صغير بطلع السطح وأطير طيارتي، بعد الجامعة بدأت في غواية الحمام، لغاية ما اكتشفت أن مفيش فرق أطلع ساعة العصاري معايا كباية الشاي التمام وأعيش مع السما».

ينشد رمضان بطائرته الورقية صفاء يفتقده، وربما يكسر روتين وظيفته الحكومية حيث قنع بدورة الحياة الهادئة ـ هكذا يراها ـ من دون صخب، حياة يسرق منها لحظات، يتسكع خلالها في سماء تظله وحده، أو ربما يتماها معها عبر طائرته الورقية، ينافس من أراد في جو من المرح الهادئ والحميمي.

عاطف السيد ابن حي «السيدة عائشة» الذي انتقل إلى حي المعادي، يتذكر سنوات صباه حين كان واحدا من بين عشرات يزينون سماء حيهم بطائراتهم الورقية، يحلقون بها أعلى حتى من أسوار قلعة صلاح الدين.. يقول عاطف «لم أر منذ أن انتقلت إلى هنا طائرة ورقية واحدة في سماء المعادي، حتى ابني وهو مولود هنا لم يطلبها يوما.. ربما لأنه لم يشاهدها أو ربما لوجود وسائل ترفيه مختلفة أصبحت متاحة له، لا أعرف؟!».

«أنا شخصيا لم أر زرقة البحر بعيني إلا في أثناء الجامعة، ربما لهذا كنا نطلب زرقة السماء». ويضيف «حين كنا صغارا كان التلفزيون المصري الذي أصبحنا نسميه اليوم أرضيا، يبث قناتين فقط وعند الثانية عشرة يغلق مدة ساعتين وينهي إرساله في المساء. وكان المكان الوحيد الذي يمكننا الذهاب إليه هو مركز الشباب، ولما كبرنا سمعنا من أصدقاء بالمدرسة أنهم سمعوا عن (الأتاري)، فكان طبيعيا أن تكون متعتنا الوحيدة بخلاف كرة القدم التي لم أجدها أبدا، هي الطائرات الورقية».

لكن الطائرات الورقية لا تزال بخير، ولم تغادر سماء الأحياء الشعبية بعد، تقاوم المتع الكسولة؛ الفضاء الإعلامي المفتوح، ومقاهي ألعاب الفيديو. «صحيح مش زي زمان» يؤكد الحاج نبيل، لكن ما زال لها «زبون». والحاج نبيل صاحب محل خردوات يتكفل بصنعها لمن يطلب مقابل خمسة جنيهات مصرية بخلاف ثمن «الدوبارة» والورق. «فيه ناس بتطلب نعمل لها الطيارة لون علم النادي الأهلي أو علم مصر».

تؤكد إيناس طلبة اخصائية علم النفس التربوي، أمرين، الأول يتعلق بأهمية المهارات اليدوية في تطوير وعي الطفل وقدراته الذهنية والنفسية، وتعتبر الطائرات الورقية نموذجا مثاليا بقدر ما تتداخل في عملية إنتاجها عناصر عديدة منها الدقة والمهارة والإبداع. وفي تقديرها تعد الطائرات الورقية أحد الوسائل المهمة حين يقوم الطفل نفسه بصنعها. إيناس، على جانب آخر، عانت منذ أن كانت صغيرة الحرمان من هذه المتعة التي تقتصر في الغالب، ومن دون سبب واضح، على الصبية.. تقول بفخر خلا من زهو «لكنني تمكنت من تحقيق نصف هذا الحلم مع ابني من خلال الطائرات البلاستيكية التي تنتشر في المصايف على الشواطئ لكنها لم تشبع رغبتي تماما فالطائرات التقليدية لها طعم آخر».

وتسترجع إيناس صوت فيروز، وهي تشدو «طيري يا طيارة طيري يا ورق وخيطان.. بدي أرجع بنت صغيرة على سطح الجيران».. أما فارس، ورمضان، وعاطف فقد أطلقوا لخيوط طائراتهم العنان، لتصنع في سماء القاهرة جزيرة صغيرة من الحلم والورق الملون، تتناثر في غبارها قصص وحكايات لأطفال يصنعون كل يوم مسرحهم المفتوح ببراءة وحب.