يسرى عيد.. قروية تحاول إنقاذ صناعة الحرير في سورية

تعمل مع بناتها الست في منزلها المتواضع بحي شعبي بدمشق

يسرى عيد.. ومنتجاتها الحريرية («الشرق الاوسط»)
TT

من يزور المعارض الحرفية والمهنية الدمشقية لا بد أن تثير انتباهه تلك المرأة المتوسطة العمر، التي تعمل عبر أدوات يدوية بسيطة على تحويل خيوط الحرير الذهبية إلى قمصان ووشاحات نسائية.

وقد ينتاب الزائر شعور بأن هذه المرأة ذات الملامح الريفية تعتمد الخيوط الصناعية لتأمين دخل مادي لها، غير أنه سيكتشف بعد حين أنها تعمل على مشروع شخصي ورثته عن والدتها وجدتها في قريتها الجبلية الهادئة دير ماما، في سلسلة الجبال الساحلية السورية، التي اشتهرت منذ مئات السنين بإنتاج الحرير الطبيعي وعناية أهل القرية بتربية دودة القز لاستخلاص خيوط الحرير من شرانقها.

يسرى عيد، السيدة الآتية إلى دمشق من دير ماما منذ سنوات عديدة إلى دمشق، سعت إلى إنهاض مهنة إنتاج الحرير وتحويله إلى منسوجات كادت تفتقدها الأسواق السورية بعد طغيان المنتجات الصناعية عليها. وبمساعدة أهالي قريتها، ومعها بناتها الست في منزلها المتواضع بحي العروبة في منطقة مخيم اليرموك بدمشق، استطاعت يسرى أن تحول المنزل إلى ورشة بسيطة تعمل فيها على المحافظة على الحرير الطبيعي، وهذا رغم صعوبة العمل فيه.. من بداية إنتاجه حتى تحويله إلى الباسة، ورغم انحسار الاهتمام به حتى في المناطق التي كانت قد اشتهرت به كمنطقة الدريكيش بمحافظة طرطوس الساحلية. وكان في الدريكيش معمل حكومي لتصنيع الحرير. ولكن العمل توقف فيه قبل سنوات، وكادت المهنة أن تنقرض رغم شهرة سورية التاريخية في الحرير.. وكونها محطة رئيسية على «طريق الحرير».

تقول يسرى عيد لـ«الشرق الأوسط»: «مهنة الحرير متوارثة أبا عن جد في قريتنا، وعندما أبصرت النور وجدت أهلي يعملون في مهنة الحرير، فتعلمتها منهم بشكل تلقائي. وعندما جئت إلى دمشق قبل عشرين سنة مع زوجي قررت نقلها إلى العاصمة لأعرف الناس هنا في دمشق على هذه المهنة التراثية. وبالفعل وجدت صدى واسعا عند الناس والمهتمين بالتراث، وخاصة من خلال مشاركاتي في المعارض السياحية والحرفية. ومن المعروف أن الحرير قبل آلاف السنين كان يعادل تجارة النفط حاليا.. ويبقى للحرير مزايا خاصة من كونه مادة طبيعية وأساسية وصحية بعكس الألبسة الصناعية».

وحول استخلاص الحرير تابعت عيد: «البداية مع تربية دودة القز في القرية، وعندما تتحول الدودة إلى شرنقة نسحب الخيط منها بطريقة خاصة ومستلزمات ضرورية، منها غليها بالماء واستخدام الدولاب. ويمر الحصول على خيوط الحرير برحلة طويلة وصعبة ولكل مرحلة من مراحلها قواعدها واختصاصاتها. إذ نبدأ بغلي الشرانق في الماء، ومن ثم يأتي دور «الحلاّل» (بتشديد اللام) وهو الذي يسحب الخيوط من الشرنقة بعد غليها ومن ثم يلفها على الدولاب. ومن خلال شخصين خبيرين الأول يغلي الشرانق ويسحب الخيط، والثاني يلفه على دولاب وهي عملية متواصلة حتى الحصول على كتلة كبيرة من خيوط الحرير بمقدار كيلوغرام وسطيا.. وهذا شيء جيد وموسم وفير نوعا ما». ثم تضيف «..بعدها تأتي مرحلة لف هذه الخيوط على مواسير صغيرة، ومن ثم غزلها على مغازل يدوية، وبعدها تؤخذ الخيوط إلى الحايك الذي يصنع القماش من الحرير. ونحن في النهاية نأخذ القماش ونصنع منه المطلوب من قبل الناس والمهتمين. وما هو مطلوب في السوق كثيرا هذه الأيام بشكل أساسي مناديل الرأس التراثية الحريرية وهذه نصنعها بعدة أشكال.. ومنها المثلث والمستطيل والمربع، ومنها ما هو مشغول كله بسنارة واحدة، ومنه قماش مع سنارة، وغيرها من الأشكال التي تبدع من خلالها اليد النسائية. إذ تستطيع المرأة الحرفية إطلاق العنان لخيالها كي تنتج أشكالا متنوعة من الحرير، ولكن المطلوب هو الشائع.. وأنا أنتج إضافة لمناديل الرأس البلوزات والشالات (الوشاحات) والتنانير والعباءات، وهذه خاصة بالنساء، وهناك ما هو خاص بالموبيليا ولها زبائنها مثل أوج طربيزات من الحرير الطبيعي. وبالنسبة للرجال يمكن أن نصنع الصديريات (الجيليه) والسراويل ولها طابعها التراثي».

وحول الألوان في المنتجات الحريرية، قالت عيد: «الشرنقة لونها أصفر، لذلك نعتمد اللون الأصفر كلون أساسي، ولكن بعد تهجين الشرنقة صار لدينا عدة ألوان صبغية. ولدودة القز معاملة خاصة في القرية حيث تتغذى بشكل رئيسي على ورق أشجار التوت وتوضع في غرف مكيفة بدرجة حرارة من 26 ـ 28 درجة مئوية وبدرجة رطوبة 65% مع تعقيم المكان من خلال الطرش بالكلس، وليس بالدهان لأنه يضر بالدودة. وأي زيادة أو نقصان في درجتي الحرارة والرطوبة سيؤثر سلبا على موسم الحرير، وقد تموت الدودة أو تمرض فينعدم الموسم ونخسر الجهد والوقت. وثمة مجموعات من أهل القرية تنتظر الموسم وتعتمد عليه. أما في دمشق فلا يوجد غيري يعمل في مهنة الحرير الطبيعي، ولولا قريتي وأهلي لما تمكنّت من إيصال ما ننتجه إلى دمشق. ثم إن مهنتنا يدوية بالكامل ونستخدم الأدوات القديمة التي كانت تستخدم منذ ألف سنة». وعن الوقت الذي يأخذه تصنيع الألبسة الحريرية، قالت عيد: «بعض القطع تحتاج لشهر كامل لإنتاج الواحدة منها فقط مثل العباءة أو المثلث الذي صنعته بكل قطعه من الحرير على السنارة، وهناك الشالات التي تحتاج لحوالي أسبوعين وسطيا، ويبقى الآمر مرتبطا بقدرة المرأة على التحمل والمثابرة في العمل. وبالنسبة لي ومع بناتي نعمل بمثابرة، ولقد أضفنا أمورا تزيينية للقطع الحريرية مثل الكانفا (التطريز بالإبرة)، كذلك هناك قطب متنوعة وبشكل خاص نستخدم قطبا ذات تسميات محلية ومنها: الشريقي والغريبي ودعسة القطة والزهرة». وحول زبائن منتجات الحرير الطبيعي ذكرت عيد أن «معظمهم من المهتمين بالتراث وأبناء المنطقة الساحلية والسياح.. وهم يشاهدونني في المعارض لأنه لا يوجد لدي محل، وأتمنى من وزارة السياحة السورية أن توافق على استثماري محلا في سوق المهن اليدوية في مبنى التكية السليمانية أسوة بباقي المهن اليدوية، لا سيما، أنني الوحيدة في دمشق التي تعمل بهذه المهنة اليدوية. ومع أنني تقدمت بعدة طلبات لتخصيصي بمحل في السوق التراثي لم أحصل على الموافقة حتى الآن».

وبالنسبة لما تتوقعه لمستقبل مهنة الحرير الطبيعي، قالت يسرى عيد: «هناك جيل شاب يعمل في هذه المهنة في القرية، وهؤلاء ممن يبحثون عن عمل مدرٍّ للدخل وليس لديهم حاليا مهنة أخرى. ولكن يبقى العمل فيها موسميا.. في فصل الربيع، وهناك محاولات من الحكومة لأن يكون للحرير أكثر من موسم من خلال تطوير تربية دودة القزّ. وهناك موسم خريفي لكن الخيوط تكون قليلة ولا يتاح العمل فيه سوى لأشخاص بأعداد قليلة جدا». وردا على ما يقال عن أن مهنة الحرير مهنة نسائية تنفي ذلك يسرى عيد مبررة بأنه «لا بد من وجود الذكور في مراحل العمل، حيث هناك الحاجة لجهد عضلي مثل سحب الخيط الذي لا تستطيعه المرأة، التي لا تتحمّل أيضا حيث يجب أن يضع يده في الماء المغلي ويسحب الخيوط. وكذلك من يلفّ الخيوط على الدولاب يجب أن يكون رجلا قوي البنية وعضلاته مفتولة حتى يتمكن من «برم» الدولاب. وحتى المراحل الأخرى صعبة.. لكن المرأة في القرية نشيطة وتعمل جاهدة لتحسين وضعها المادي».