اللبنانية زهى ناصيف تعلم ألف باء الرسم.. وتعمم الثقافة الفنية

تشترط تحلي التلميذ بالشغف وتتولى باقي المهمة

زهى ناصيف ومعها تلميذتان تتعلمان أصول التلوين المائي في المحترف («الشرق الأوسط»)
TT

تتنقل اللبنانية زهى ناصيف كفراشة من تلميذة إلى أخرى ومن غرفة إلى أخرى في محترفها الخاص في الاشرفية ببيروت حيث تعلم أصول الفن التشكيلي وتقنياته و«مفاتيحه». لا تشترط على الراغبين في التعلم سوى التحلي بالشغف، لأن الباقي يقع في دائرة مسؤوليتها. والسن ليست عائقا، لأنها تستقبل جميع الفئات العمرية، من الخامسة إلى ما فوق الثمانين، مرورا بفئة الشباب، لا سيما من يتحضرون للمشاركة في مباريات الدخول إلى معاهد الفنون الجميلة في لبنان وأوروبا، ذلك أن النتيجة مضمونة، فنسبة النجاح مائة في المائة.

وإذا لم تكن سعة الثقافة متوافرة، فلا يهم، لأن مكتبتها التي تضم أكثر من 800 كتاب، فضلا عن الأفلام الوثائقية والأقراص المدمجة، ستعرف التلميذ على رواد هذا الفن وكبار أساتذته وأبرز مدارسه ليكتسب خلفية توسع آفاقه وتخوله «قراءة» ما يتأمل من لوحات.

وهكذا، على إيقاع النغمات الهادئة، يسمَع صوتها الذي يخفت أحيانا ليعلو أحيانا أخرى، تبعا لدرجة الملاحظة «الودية» التي توجهها للطالبات. وهؤلاء لا يبحثن عن احتراف، لأن غالبيتهن لا يسعين إلا وراء تلبية رغباتهن الخاصة: تعلم ألف باء الرسم.

والشغف الذي تبديه زهى إزاء الفن التشكيلي لا يقل أهمية عن شغف التعليم، كما يبدو جليا في جلسة حضرتها «الشرق الأوسط». فهي طوال ساعات الدروس الصباحية التي تمتد إلى الظهر، تنهمك في توجيه النصائح بحماسة، تطلب إليهن التحلي بـ«الشغف والحب» للنجاح في الرسم و«إلا، فالنتيجة ستكون حتما جامدة لا حياة فيها». تشجع إحدى السيدات على تصحيح خطأ ارتكبته هنا، فتنتقل إلى أخرى لتعلمها أصول الـ«أكواريل» ورشّ حبات الملح لإضافة بعض الظلال وإضفاء أبعاد على المشهد العام. ثم تركض إلى غرفة أخرى لتخفف إحباط إحداهن وترفع معنوياتها، فيما تلطف «غرور» أخرى، تفرح بعودة تلميذة إلى المحترف وقد بلغت 18 وذلك بعد غياب 8 سنوات، تستقبلها بحرارة أمّ وتبدأ تعليمها «من الصفر»، أي مرحلة الرسم بقلم الرصاص، ثم تنتقل إلى سيدة في الثلاثينات تهنئها على إنجاز باكورة أعمالها، لتعلمها «أصول» توقيع اللوحة. يبدو أنها اللحظة الأجمل بالنسبة إلى الطالبة، فهي لحظة إعلان إنجاز العمل الذي اكتملت عناصره. وإلى جانبها، يتفتح «ربيع» مدهش بألوانه المتناغمة في لوحة زيتية، بعد 8 ساعات من العمل.

تقول زهى في لقاء مع «الشرق الأوسط»: «راودتني فكرة تأسيس محترف للتعليم، بعدما غادرت باريس حيث أكملت دراستي في مجالي الإعلان الإبداعي والفن التشكيلي، وعدت في 1999 إلى بيروت، حيث توجب علي البحث عن سبيل للعيش. فاستقبلت في البداية ستة تلاميذ فقط، لأن المبلغ الذي كنت أجنيه منهم كان يكفي لتسديد بدل الإيجار. لكن المفاجأة كانت لدى اكتشافي لذة تعليم قواعد الفن التشكيلي. ومع الوقت، بدأ صيتي يذيع ومعه يزداد عدد التلاميذ إلى أن صار 250. في الشتاء، أستقبلهم 6 أيام في الأسبوع، وصيفا أفتح من الاثنين إلى الخميس، حتى يتسنى لي الاهتمام بعائلتي وصبياني الثلاثة. ونخصص صفا للصغار، إذ استقبل 25 طفلا، إنما لدي بعض المساعِدات اللاتي درسن في محترفي 10 سنوات». ولتشجيع تلاميذها، درجت زهى على تنظيم «تظاهرة تشكيلية» في ديسمبر (كانون الأول) من كل عام. فهذه المحطة تحولت تقليدا سنويا يشارك فيه الطلاب بأعمالهم، ما يتيح لهم فرصة بيع بعض اللوحات وربما الانتقال إلى عالم الاحتراف.

وتركز زهى على «مبدأ أساسي» وهو عدم تحويل التلامذة «نسخا منّي». فتحرص على أن «يتمتع كل منهم بأسلوبه الخاص ليعكس شخصيته في اللوحة. فالعمل التشكيلي لا ينجح إلا إذا كان مشبعا بالحب والشغف. لذلك، أترك لهم الحرية في اختيار موضوع اللوحة، إنما أتدخل حيث يلزم الأمر، فأنصحهم مثلا باختيار هذا الموضوع لا ذاك، لأنه يتناسب مع قدراتهم أو إمكاناتهم».

الألفة التي تظلل المكان لا تعني التساهل، لأن ابتسامة زهى وحركتها المكوكية قادرتان على التحول، خلال لحظات، إلى صرامة في التعامل. فهي لا تساوم على أسلوبها في التعليم وشروطها لا تلين حتى وإن كان التلميذ سبق أن درس الفن التشكيلي. فالقاعدة الأساسية تقوم على التعليم من الصفر أي البدء بالرسم بقلم الرصاص. ولدى تملّك هذه التقنية، يكون الانتقال إلى الـ«اكواريل» أو الرسم بالماء، قبل الوصول إلى مرحلتي الاكريليك والزيت، ذلك أن «تقنية الاكواريل صعبة. فممنوع ارتكاب أي خطأ، لأن التصحيح يصبح صعبا إن لم يكن مستحيلا بما أن الألوان المائية شديدة الشفافية. أما في الاكريليك والزيت فإخفاء الهفوات والعيوب وإمكان التعديل المستمر يبقيان متاحين».

واللافت أن لا ساعات محددة تقيد الطالب، فالانتقال من مرحلة إلى أخرى يبقى رهن سرعة التعلم. فميشلين، وهي إحدى السيدات، بلغت خلال عامين فقط مرحلة الـ«hyper realism» فأدهش بورتريه «بائع السجاد» الذي يحمل توقيعها كل من شاهده. فعيناه اللتان تبتسمان بانحناءة وما يحوطهما من تجاعيد رقيقة يجذبان الزائر من بعيد، حتى إن الأطفال الذين يتعلمون في المحترف حاكوا حوله قصصا وأعطوه اسما فكاد يصير بطلا! تروي ميشلين لـ«الشرق الأوسط» أنها أتت صدفة إلى المحترف ولم تستطع أن تغادره منذ سنتين، «فهنا أجد كل دعم وتشجيع من دون التهاون في الملاحظات الموضوعية التي توجهها إلينا زهى. وحين انتهيت من إنجاز بائع السجاد، لم أصدق عيني وحتى الآن لا أزال عاجزة عن التصديق. لطالما أحببت الرسم، إنما الظروف لم تسمح لي باحترافه».

بصراحة، تقول ميمي عقل التي سبق أن درست الهندسة وبدأت الرسم في المحترف منذ 10 سنوات: «هنا تعلمت كل التقنيات التي نستخدمها في الرسم. لدي لوحة بدأت برسمها في منزلي، وإلى الآن لا أجرؤ على متابعتها. أما هنا فأشعر بأني قادرة على العمل لأن زهى حاضرة دوما لتصحيح أخطائنا وإرشادنا». تخطت عقارب الساعة الأولى بعد الظهر. انتهى الصف. الجميع يخططون للذهاب إلى سهل البقاع حيث سيمضون يوما كاملا في أحضان الطبيعة لتعلم الرسم الحي.