أقدم «مكوجية» في مصر تقاوم «غزو المركز الثقافي» الفرنسي لمسكنها

تقترب من المائة عام وتتشبث بالذكريات للنجاة من قسوة الحياة

سكينة محمد عبد الدايم أقدم مكوجية في مصر («الشرق الاوسط»)
TT

طوال ما يقرب من ثمانية عقود اعتادت سكينة محمد عبد الدايم أن تليّن الأيام والملابس معا بمكواتها الحديدية العتيقة، تتكئ على دفء الجيران وحكمة السنين وحلاوة الرزق الحلال، إلى أن بردت حرارة المكواة، وشح الرزق، ولم يبق لها إلا عبق الذكريات في دكانها القديم، تجترها كثيرا وتتنفس ما تبقى من هواء، تجاهد لاستعادة جزء من قواها لتواصل معركتها الأخيرة أمام محاولات المركز الثقافي الفرنسي الاستيلاء على بيتها.

في مطلع العقد الثاني من القرن الماضي ولدت سكينة في قرية ميت بدر حلاوة بالقرب من المنصورة شمال مصر، وهناك ترعرعت وسط بكارة الحياة إلى أن رمقتها عين أحد عمال الطرق فصمم على خطبتها لابنه في القاهرة، وخطت الصبية الصغيرة رحلتها الطويلة في قاع المدينة، حتى استقرت في حي المنيرة بجوار عرفة زايد، زوجها الذي ارتبطت به، وهي تهرول على أعتاب الطفولة، كان عرفة «مكوجيا» يتكسب من عرقه، أجّر دكانا بالقرب من بيته، وبعد ثلاثة أشهر فقط من الزواج، رحل إجباريا للخدمة العسكرية في الحرب العالمية الثانية، هو والعامل الذي يساعده، ومع انتقال المعارك من مكان إلى آخر، استقر به الحال في مطروح أقصى شمال غربي مصر، ثم انقطعت أخباره. في القاهرة كان عليها أن تتحدى قسوة الحياة، وهي بعد طرية العود، لا تزال أختام القرية على لهجتها وكلماتها، نزلت للعمل لتعول ابنتها فوزية التي لم تر أباها، تحولت بمرور الوقت إلى امرأة تعرف كيف تتصدى لأعين الطامعين، تعلمت أسرار الصنعة، ومشت الأيام بستر الخالق، تقول: «كنت باكوي للباشاوات، وأغسل كمان، غسيل وكي البدلة كان بعشرة صاغ، بس الحياة كان فيها بركة ورخيصة».

طوال 11 عاما قضتها في القاهرة وحدها بعد انقطاع أخبار الزوج كانت شاهدة على صخب السياسة، وصدامات العسكر والمتظاهرين من أجل جلاء الاحتلال: «مرة هدموا كل المحلات، الفحامين والعربجية والحدادين عشان بتهدد قطارات العساكر، وكان محلي واحد منهم، لكن صاحبه أصر على بناء محل آخر لي كي أصرف على أبنائي، وكان هذا المحل الذي نوجد فيه الآن».

أصرت عائلتها على تزويجها من ابن عمتها، فليس من المعقول أن تظل بلا رجل طوال حياتها، وتزوجت بالفعل ثم عاد الزوج المفقود بعد ثلاثة أيام فقط من الزفاف، لكن كل شيء قسمة ونصيب، أكملت الرحلة مع ابن عمتي إلى أن توفي هو الآخر في بداية الستينات».

ارتبطت حياة سكينة بالمكان، ووسط مهنة ذكورية بامتياز حققت شهرة واسعة، ومع افتتاح المجلس الثقافي الفرنسي على بعد أمتار من محلها ازداد دخلها، تقول: «كان الخواجات يفضلون كي ملابسهم عندي لقرب المكان من ناحية، ولإتقاني للعمل من جانب آخر، كانوا يرسلون ملابسهم مع الخدم، واستمر الحال حتى فترة التسعينات أثناء اشتداد هجمات الإرهاب، فغلب الحذر على تصرفاتهم، وانصرفوا عني».

طوال رحلتها تعاملت سكينة مع ساسة وباشاوات ووجهاء القاهرة منهم مصطفى فهمي باشا الذي كان رئيسا للوزراء، فمع تعاملها مع محل «كلينز» الفرنسي لتفصيل الملابس وردت إليها ملابس الكبار، كما قابلت السيدة جيهان السادات صدفة وهي تدفع مصاريف ابنتها فوزية في جامعة القاهرة، قررت لها أربعين جنيها كمعاش بعد تقديرها لكفاحها.

كانت سكينة شاهدة على حمم حروب عديدة لفحت القاهرة بنارها، تقول: «عاصرت حرب فلسطين واليمن، واليهود، كانوا بيعدوا عليا يدهنوا الشبابيك أزرق وينادوا طفوا النور، ومرة وقعوا طيار بالقرب منا والناس اتلمت تتفرج على الطيار إللي مسكوه، ربنا ما يعودها أيام صعبة».

أنجبت سكينة ثلاث بنات وولدا، توفي الولد طفلا، وماتت فوزية منذ سنوات قليلة تاركة لها ثلاثة أحفاد، وبقي لها بنتان واحدة تقطن حي حلوان والأخرى في المعادي، يزورانها من وقت لآخر «لكن الدنيا تلاهي يا ابني، وكتر خيرهم».

تدفع سكينة إيجارا شهريا قدره 110 جنيهات، لكن صاحب البيت رفع قضية طرد للسكان، لأنه باع الأرض للمركز الثقافي الفرنسي، وتؤكد أنه في الطريق الآن لتنفيذ مخططه، ولهذا تقضي أغلب يومها في المحل كي تتعود على السكن الدائم فيه، رغم أنها لم تعد تعمل منذ شهرين، بسبب آلام رجلها اليمنى التي تعرضت للكسر، وركبت فيها شريحة معدنية، لم تعد تتحمل الوقوف لفترات طويلة، خاصة مع تعودها على المكواة القديمة التي تسخنها على «وابور الجاز»، ثم تفرد بها القماش.

لم تعد الآن تملك صحة ولا مالا، وتحول دكانها ـ الذي تجرأت الأرض عليه وارتفعت أمامه ـ إلى ما يشبه المتحف لأدوات في طريقها للانقراض، وابور جاز، من الصعب أن تجد من يصونه إذا فكر في التذمر عن واجبه، ومكواة آن لها أن تستريح بعد ثمانية عقود من الصداقة مع اللهب، وامرأة تتوكأ على عصا تقاوم النهاية، تنتظر على باب الكريم ما يعينها لأيام قادمة، ودعتني بنظرة أليمة قبل أن تتمتم: «ما تنسنيش يا ابني».