«مقهى فرنسا».. عين تطل على ساحة جامع الفنا

رواده يستمتعون بتأمل ما يجري في أجمل معالم مراكش

«مقهى فرنسا» أقدم وأشهر مقهى بساحة جامع الفنا بمراكش («الشرق الأوسط»)
TT

بعيدا عن حديث المقاهي «الزجاجية» التي صارت تنبت بين الشهر والآخر في هذا الشارع أو ذاك، من مدينة مراكش، تصر مقاه أخرى من «سنوات الزمن الجميل» على الوقوف في وجه إعصار التحولات المتسارعة، التي طالت البشر والحجر، محافظة على الشكل واللون والمضمون نفسه.

ويمكن القول إن «مقهى فرنسا»، الموجود في الجانب الأيمن من ساحة جامع الفنا، أشهر ساحات مدينة مراكش، بل والمغرب كله، عنوان بارز «لحرب المقاهي» في هذه المدينة التي تعد حاليا واحدة من أشهر المدن السياحية في العالم العربي وأفريقيا.

يعد «مقهى فرنسا» الذي فتح أبوابه عام 1915، أقدم وأشهر مقهى في ساحة جامع الفنا. ومن مميزاته أنه يوفر لزبنائه مشاهدة كاملة للساحة. إذ يتوافر على سطح مرتفع، كما يقع قبالة صومعة الكتبية، على المدخل الرئيسي الذي يقود إلى دروب المدينة القديمة.

وتقول إحصائيات أصدرتها جمعية أرباب المقاهي العصرية في المدينة، إن عدد المقاهي في مراكش يتزايد بما يقارب السبعين في السنة. ويرى الكاتب والإعلامي عبد الصمد الكباص في هذا الرقم مؤشرا غير سار بالنسبة لأصحاب المقاهي في مدينة تتحول فيها حتى محلات البقالة إلى مقاهٍ. ورغم أن بعض المقاهي في مراكش تبقى، برأي الكباص، عبارة عن «مواقع للرصد»، حيث «الناس يجلسون في كراسيهم ويضعون مشروبهم على المائدة وينظرون إلى ما حولهم، ويحكمون على بعضهم وعلى العالم وعلى أنفسهم»، فإن «مقهى فرنسا» يتميز عن كثير من مقاهي مراكش بتجاوز رواده حالة «الرصد» العادي إلى الاستمتاع بما يجري في الساحة الشهيرة.

وقبل أشهر، انتشرت بين المراكشيين شائعات، تحدثت عن اتجاه «ماكدونالدز»، سلسلة المطاعم الأميركية، لشراء «مقهى فرنسا»». ولكن من حسن حظ المراكشيين الغيورين على ذاكرة مدينتهم، أن الشائعة كانت، في نهاية الأمر، مجرد إشاعة لا أساس لها.

ولعل ما زاد من حجم المخاوف والتساؤلات، التي طرحها كثير من عشاق المقهى والساحة، وهم يسمعون إشاعة تحول المقهى إلى مطعم وجبات سريعة، أن كثيرين من رواده يعتبرون من أبرز المدافعين عن حق الساحة في المحافظة على دفئها وذاكرتها.

ففي هذه المقهى، يجلس الكاتب الإسباني خوان غويتسولو، كما يجلس الباحث الهولندي بيرت فلينت والشاعر المغربي محمد بلحاج آيت وارهام، فضلا عن مثقفين كبار قصدوا ويقصدون «المدينة الحمراء» من مختلف قارات العالم، حريصين على شرب كؤوس الشاي المنعنع، وعلى الاستمتاع من سطح المقهى بالفرجة على ما يجري في الساحة.. حيث تبدو حركات مروّضي الأفاعي والقردة والمغنين والحكواتيين، ودخان المطاعم الشعبية المنطلق نحو السماء، أشبه بلوحة فنية متحركة، تمنح المشاهد شعورا رائعا يمزج المتعة بالفائدة.

ويستعيد محمد صادق العلوي تاريخ المقهى الشهير، فيقول إن فرنسيا يدعى «بريدا» كان أول مالك له. وكان في البداية عبارة عن مرقص يفد إليه الفرنسيون، في بداية سنوات الحماية الفرنسية، مشيرا إلى أن الفرنسي «بريدا» هو من أطلق عليه اسم «مقهى فرنسا».

ويتابع العلوي أن المظاهرات التي انطلقت للمطالبة باستقلال المغرب عن الاستعمار الفرنسي، في بداية الخمسينات من القرن الماضي، دفعت المالك الفرنسي إلى تأجير المقهى لوالده الحاج محمد صادق العلوي. ثم يقول: «مع أن والدي كان فلاحا، فقد اشترى المقهى من الفرنسي «بريدا» بناء على نصيحة أحد أصدقائه. وعام 1973، استقال أحد إخوتي من الشرطة ليتولى تسييره، بعدما قام والدي بإصلاحه وتوسيعه، حتى صار يضم مقهى وفندقا ومطعما».

ولقد احتفظ الحاج محمد صادق العلوي للمقهى باسمه الأول، الذي أطلقه عليه مؤسسه الفرنسي «بريدا»، لكن التعديل الوحيد الذي أدخله عليها، إضافة إلى التوسيع والإصلاح والترميم، كان قراره الإحجام عن تقديم المشروبات الكحولية.

واليوم، إضافة إلى قيمته الرمزية، التي حولته إلى ما يشبه «المَعلَم التاريخي» في «المدينة الحمراء»، يواصل «مقهى فرنسا» تقديم الشاي المنعنع لرواده، تلخيصا لبساطة تحتفظ للمكان بدفئه الإنساني.

ورغم قيمة وجمالية المشهد البانورامي، المفتوح على ساحة جامع الفنا ومنظر الغروب الممتد على ارتفاع صومعة الكتبية، وفضلا عن مذاق كؤوس الشاي المنعنع والطواجن المغربية وأطباق الكسكس، في مطعمها، فإن الأثمان تبقى في متناول الجميع. الشيء الذي يؤكد أن الأصيل تبقى له فرادة التاريخ ودفء المكان.. ومزية الرأفة بجيوب الزبناء.