جنرالات أميركا اللاتينية يودعون ثرثرة العشاق ويستقبلون صخب الأسر المصرية

في حديقة «الحرية والصداقة»

جنرالات أميركا اللاتينية في حديقة الحرية والصداقة («الشرق الأوسط»)
TT

منذ سنوات وهم يستقبلون نهارات جديدة تحت سماء غير تلك التي أظلتهم أيام مجدهم، حينما كانوا يخوضون معاركهم الحاسمة في جبال العالم الجديد. يرسلون شبابا إلى الموت، ويواجهون أحكاما بالإعدام بحثا عن الحرية والمجد.

جنرالات العالم الجديد، قادة استقلال أميركا الجنوبية، يقضون أوقات فراغهم اليوم في حديقة «الحرية والصداقة» المطلة على النيل، في قلب العاصمة المصرية، القاهرة. يتابعون، وقد علت وجوههم نظرة جادة وملامح وقورة، الصراعات الصغيرة التي تدور إلى جوارهم بين العشاق من مرتادي الحديقة وأفراد أمنها.

فحديقة «الحرية والصداقة» التي تقع بمنطقة الجزيرة، أمام دار الأوبرا المصرية، في الميدان الذي يقف فيه الزعيم المصري سعد زغلول شامخا، تكاد يده الممدودة تلامس قرص الشمس، تعد المكان المفضل لعشاق القاهرة من طلبة الجامعات وتلاميذ المدارس الذين يكتشفون لتوهم وهج الحب. فيقصدونها بحثا عن قدر أكبر من الخصوصية، مخلفين على مقاعد كورنيش النيل ثرثرتهم الخجولة، وإلحاح الباعة الجائلين.

يستيقظ الجنرالات صباحا على سعال الحارس الذي ينتظر المهندس الزراعي محمد عبد الله، مدير الحديقة، لكي يفتح الأبواب أمام الجمهور، ذلك منذ أن توافدوا إليها تباعا بداية من عام 2000 حين ارتدت الحديقة حلتها الجديدة بعد إغلاقها مدة عام للتطوير.

إلا أن الصيف يحمل للحديقة جمهورا مختلفا بعد إجازات نهاية العام، عندئذ لا يتوفر للطلاب المبررات المناسبة للخروج، فيعودون إليها، إنما بصحبة أسرهم هذه المرة، في أمسيات الصيف الطويلة، حيث تفر الأسر المصرية من جحيم الأسمنت داخل التجمعات السكانية لتجد متنفسا جميلا قليل التكاليف، حيث لا تتعدى سعر تذكرتها الجنيهين، للمصريين والأجانب على السواء. كما أنها واحدة من أفضل الحدائق القاهرية، وقد أهلها هذا للحصول على جائزة أفضل حديقة على مستوى جمهورية مصر العربية في العام الماضي.

وللحديقة عمر يناهز أعمار ضيوفها من الجنرالات. غير أن السنوات التي أضافت إلى رصيد مجدهم قداسة الأزمنة الغابرة لم تحسن السلوك معها، فاقتطعت منها، على مر الأيام، جزءا بعد جزء، وبعد أن كانت سنوات مجدها في عهد الخديوي إسماعيل ممتدة بين فرعي النيل بمساحة سبعة أفدنة تغيرت معالمها اليوم ولم يبق لها شاهد على تلك الأيام إلا شجرة التين البنغالي العجوز المعمرة التي تستقبلك عند مدخلها.

في البداية وصل إلى الحديقة الجنرال برناردو أوهيغنز بزيه العسكري ممثلا لجمهورية شيلي، كشاب وسيم أيرلندي الأصل خاض صراعا مريرا ضد العرش الإسباني ليصبح أول حاكم لشيلي كجمهورية مستقلة. وقد حل أوهيغنز ضيفا على أمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وطلعت باشا حرب، الذين سبقوه إلى الحديقة حتى قبل سنوات من تطويرها. ليكون المصري الوحيد الذي وصل للحديقة بعد إعادة افتتاحها هو عبد المنعم رياض، لكي ينضم إلى جنرالات الحرية ممثلا مصر الثورة. من بعده يصل سانتاندير ممثلا عن جمهورية كولومبيا. وهو فرانسيسكو دي باولا سانتاندير، الملقب برجل القانون الذي صاغ مع محرر أميركا الجنوبية الأعظم، الجنرال سيمون بوليفار، حلم الاستقلال وفرضه واقعا حيا في كولومبيا التي كانت، حتى ذلك الحين، مجرد فكرة في ذهن فرانسيسكو دي ميراندا. وميراندا هذا هو من أخذ بيد برناردو أوهيغنز وقاده عبر دروب المحافل الماسونية في لندن حتى صار أول حاكم لشيلي، وقد واجه سانتاندير حكما بالإعدام بعد خلافه مع بوليفار الذي أعلن نفسه ديكتاتورا، غير أن هذا الحكم لم ينفذ، ونفي سانتاندير قبل أن يعود من جديد إلى كولومبيا ليصبح أول حكامها الليبراليين المنادين بالفيدرالية.

ومن الإكوادور جاء الجنرال ايلوي الفارو، عضو حزب الأحرار، الذي خاض صراعا مع السلطة الكنسية بدعم من القادة العسكريين لتتخلص الإكوادور من سيطرة البابوية في روما.

غير أن أكثرهم سعادة بالحضور إلى القاهرة هو بالتأكيد خوسيه مارتي بيريث، رسول الاستقلال الكوبي وبطلها القومي، فخوسيه مارتي الشاعر والمناضل الكبير الذي لم يسبق له يوما أن زار بلدا عربيا أو إسلاميا، كان مولعا بالحضارة والشخصية العربية، ومن أقواله المأثورة عن العرب قوله: «إنهم كائنات رشيقة جذابة، تشكل شعبا هو الأكثر نبلا على وجه البسيطة».

المفارقة أن العمل الفني الأول لـ«بيريث» كان نصا مسرحيا بعنوان «عبد الله» عن بطل مصري من النوبة، ولم يكن يعلم حينها بالتأكيد أنه سيقضي سنوات وسنوات بالقرب من عبق صديقه (عبد الله) هذا، وعلى إحدى ضفاف نيل القاهرة. وبيريث ليس أكثر الجنرالات سعادة فقط، بل هو أكثرهم حظا أيضا. لسببين، الأول أن سفير بلاده (دالامو فرنانديز)، ومنذ أن جاء بطله القومي إلى القاهرة، يحرص دائما على زيارته. وفي كل عام، في الأول من يناير (كانون الثاني)، يأتيه مع ضيوفه كي يضع أمامه إكليلا من الزهور احتفالا بالعيد القومي، الذي يوافق قيام الثورة في كوبا عام 1959.

أما السبب الثاني فيتمثل في حقيقة أن الحديقة ليست معنية بأي شيء يخص ضيوفها من الجنرالات، فهذا الأمر يعود بالكامل لسفارات الدول المعنية، بما في ذلك نظافة الجنرالات الشخصية. ومع إدراك كم الطيور التي تجذبها الحديقة يمكن تخيل أكثر ما يزعج الجنرالات في موقعهم هذا.

وما يميز بيريث ويجعله الأكثر حظا كونه يخضع في كل عام، وقبل زيارة السفير الكوبي، إلى عملية تنظيف شاملة برعاية السفارة، وهو ما يبقيه دائما في حالة جيدة.

المشكلة الأكثر إلحاحا والتي تواجه الحديقة اليوم، أنها لم تعد قادرة على استقبال ضيوف آخرين.

فمنذ أن وضعت أرمينيا نصبا للصداقة التي تجمع البلدين لم تعد هناك فرص لتضم الحديقة شخصيات أخرى، ذلك لأن مشروع الخط الثاني لمترو الأنفاق، الذي يمر أسفلها، سيحول دون ذلك، نظرا لأن وضع التمثال يتطلب الحفر بعمق ثلاثة أمتار تحت الأرض، وهو الأمر الذي قد يمثل خطرا على جسم نفق المترو، وهو ما دفع المسؤولين عن الحديقة إلى التفكير في حلول بديلة.