لبناني يهيئ بلدة «رياق» متحفا للقطار العابر للقارات

الأول بين بيروت ودمشق.. سيَّرته شركة فرنسية وأخرى عثمانية عام 1891

متحف أثري يحكي قصة وسيلة نقل شعبية لا تزال تحتل حيزا من ذاكرة اللبنانيين («الشرق الأوسط»)
TT

يعيش القطار الحديدي، أو «تران السكة» كما يسميه عامة اللبنانيين، مرحلة مصيرية، فهو عاطل عن العمل منذ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975. ففي حين يرى البعض الحاجة إلى وضعه من جديد على السكة الصحيحة من قبل المسؤولين، بعدما بلغت زحمة السير في المدن اللبنانية، وعلى الأوتوسترادات الرئيسية، ذروتها، وتتسبب بحرق الأعصاب والوقود، والحوادث المفجعة، يحاول البعض الآخر «حفظ كرامته» من خلال تحويل ما تبقى منه بعد انطلاق العمل فيه قبل نحو 110 سنوات، إلى متحف أثري يحكي قصة وسيلة نقل شعبية لا تزال تحتل حيزا من ذاكرة اللبنانيين.

يبدو أن المواطن اللبناني إلياس بطرس معلوف، ابن بلدة «رياق» البقاعية، التي انطلق منها وإليها أول قطار، ونقطة الوصل بين كل المحطات والمدن العربية والتركية والأوروبية، اختار الأمر الثاني، فيما تمنى وزير السياحة، إيلي ماروني، الخيار الأول القاضي بعودته إلى العمل مع أنه أعلن هذا الموقف لدى إطلاق مشروع المتحف. لتبقى الدولة اللبنانية بكل أجهزتها المعنية غير قادرة على اتخاذ القرار الفصل بين إعادة تأهيل القطار وتشغيله، أو دفنه غير مأسوف على شبابه وذكرياته وفوائده التي تفوق كلفة التشغيل أضعافا مضاعفة.

ويتحدث إلياس معلوف لـ«الشرق الأوسط» عن مشروعه فيقول: «لعب القطار الحديدي دورا مهما في تاريخ لبنان منذ عام 1891 عندما سيرت الشركة الفرنسية للسكك الحديد، والشركة العثمانية الاقتصادية، أول قطار حديدي بين بيروت ودمشق وحوران (في سورية)، ثم تم وصله في عام 1912 بالعالم العربي وأوروبا وأفريقيا، كما شكلت بلدة رياق، الواقعة بين مدينتي زحلة وبعلبك في منطقة البقاع اللبنانية همزة الوصل بين مختلف خطوط السكك الحديدية العابرة للقارات، فأنشأت فيها محطة ضخمة للقطارات، ومصنعا لقطع الغيار الخاصة بهذه القطارات وإصلاحها وإعادة تأهيل الأجزاء التي تسلل إليها الصدأ والتلف، احتلا مساحة تناهز 170 ألف متر مربع يقوم فوقها 57 مبنى، بينها فندق كبير يطلق عليه اسم (L’hotel du Buffet). وقد استخدم المصنع، خلال الحرب العالمية الثانية، لإصلاح العتاد الحربي والأسلحة، حيث كلف فريق من المهندسين في قاعدة رياق الجوية العسكرية بتصميم وبناء قطع لطائرات الجيش الفرنسي، ثم تم نقلها إلى مطار رياق، حيث ضمها مهندسو القاعدة الجوية إلى هياكل جديدة، وهكذا أطلقت طائرات رياق في سماء لبنان».

ويضيف: «في عام 1967، توقفت الحركة في محطة رياق ومصنعها بسبب الحرب الأهلية التي قضت على 85 سنة من فوائد النقل، بشقيه البشري والسلعي، وأحلام الركاب والمتنزهين. ومنذ ذلك التاريخ بقيت المباني شاخصة إلى سهل البقاع بعدما تحولت مأوى للثعالب ومختلف أنواع الحيوانات، وينعق البوم في جنباتها، وتلجأ إلى أشجارها الباسقة الطيور على أنواعها. وحول تلك المباني ترقد عربات القطار الصدئة، التي تسلل العشب إلى داخلها، والتي تحكي تاريخا كاملا من الحيوية والازدهار من جهة، والحروب والاحتلال من جهة أخرى، فضلا عما تحمله القطارات الثلاثون الباقية في المصنع والعربات المئتان الموزعة بين المباني من اللقاءات الحميمة والرحلات التي تترك بصماتها في الأذهان».

ويتابع معلوف: «وحرصا مني على ما تبقى من ذلك الضيف العزيز على قلوب اللبنانيين، وحرصا على الدور الذي أدته بلدة رياق في احتضان هذا الضيف وضخ الدم في كل شرايين البلاد والمنطقة، وحرصا على ما تمثله المباني التي صممها مهندسون فرنسيون وشيدوها في ثمانينات القرن التاسع عشر ارتأيت أن أتولى مسؤولية تحويل المحطة والمصنع إلى متحف يحفظ جزءا غاليا من تراثنا وتاريخنا، ويوفر للبلدة والمنطقة حركة سياحية تعوض ما فاتها طوال نيف وثمانية عقود من الزمن».

ويطرح معلوف تصوره للمتحف بقوله: «بادئ الأمر، من الضروري بناء جدار عازل، ويفضل أن يكون حجريا، للحفاظ على القطارات القديمة والمعدات التابعة لها. ويبلغ طول الجدار الخاص بالمصنع 2120 مترا، وفيه بوابتان كبيرتان للقطار وثلاث بوابات للزائرين. أما بالنسبة للمحطة فيلزمها جدار بطول 1720 مترا، مع بوابتين للقطار ومثلهما للزائرين. وبما أن المصنع يبعد ثلاثة كيلومترات عن المحطة يمكن إعادة تأهيل قطار قديم لنقل الزائرين بين المحطة والمصنع ذهابا وإيابا، كما يفترض نقل كل القطارات الموجودة في مختلف المحطات إلى رياق وضمها إلى المتحف الذي يضم 80 قطارا، وإذا أضفنا إليها ما تبقى من «ترامواي» بيروت (القطار الكهربائي)، الذي أنشئ في عام 1895، تصبح مجموعة القطارات في متحف رياق نحو المائة. ويحتاج هذا المتحف بالطبع إلى فريق من المشرفين ذوي الخبرة والكفاءة، وفريق آخر من المهندسين والمعماريين لإعادة ترميم وتأهيل المباني، وفريق ثالث من الميكانيكيين والكهربائيين لإعادة تأهيل القطارات وتخصيصها لأغراض غير النقل، خصوصا أن بعض تلك القطارات ومحركاتها تم تصنيعه في رياق نفسها».

ويضيف صاحب المشروع: «من شأن هذا المتحف أن يزيل الصدأ، لا عن القطارات فحسب، بل عن جزء عزيز من تاريخنا وتراثنا، ويعيد الحياة إلى مدينة رياق، والأمل إلى سكانها باستعادة أيام العز والبحبوحة».