تاجر إماراتي يوثق مهنة الغوص بمتحف خاص

يحتوي على أدوات استخدمت قبل 100 عام

مصطفى الفردان في منزله («الشرق الأوسط»)
TT

الديين، الزبيل، اليدا، الفطام.. مفردات قد تبدو مجرد طلاسم في هذه الأيام، لكنها أسماء كانت شائعة جدا لمعدات تتعلق بمهنة الغوص التي انقرضت من منطقة ساحل الخليج العربي في النصف الأول من القرن الماضي. ولعل الخطوة التي قامت بها بلدية دبي بإطلاق أسماء مستوحاة من عالم الغوص القديم على شوارع فرعية في الإمارة كانت خطوة في هذا الاتجاه، لمنع ما تبقى من مصطلحات من الانقراض إذا انقرضت المهنة بمصطلحاتها برجالها وغواصيها، حيث أصبح من النادر جدا اليوم أن تجد واحدا من غواصي تلك الحقبة على قيد الحياة، خاصة أن مهنة الغوص البدائي كما يعرف عنها كانت مهنة مضنية وشاقة.

في أيامنا هذه لم يبق من الغوص سوى بعض المعدات القديمة التي يحتفظ بها البعض، ومنهم مصطفى الفردان، وهو تاجر إماراتي أنشا متحفا خاصا في منزله ليروي من خلاله قصص الشقاء والمعاناة التي عاشها أهل ذلك الزمان في تلك المهنة لكسب قوت يومهم في مجتمع كان شبه خال من الموارد.

الفردان، الذي عرفت الخليج العربي بصنعة اللؤلؤ، أنشأ في أحد أركان فيلته في دبي متحفا صغيرا يعبق برائحة البحر ويعود بك إلى مائة سنة خلت حيث يحتفظ مصطفى بمعدات كان يستخدمها الغواصون في تلك المرحلة أثناء صيد اللؤلؤ، إضافة إلى حبات لؤلؤ بوثائق تثبت منشأها وتاريخها الذي يعود إلى أكثر من مائة عام وهي حبات خليجية المنشأ.. وهنا يعلق مصطفى قائلا «أصبح من النادر اليوم الحصول على لؤلؤ خليجي بعد طغيان الصناعي، إلا أنني قادر على تمييزها من خلال الملمس».

يجمع مصطفى أيضا ما تبقى من صور وأطياف من تاريخ عائلته في هذا المتحف الذي يروي قصة عشق الأسلاف لتلك المهنة وحجم ما بذلوه فيها من جهد، والصور الفوتوغرافية القديمة هي لأجداد الفردان، وهم ممن عملوا في مجال بيع اللؤلؤ، ويفاخر مصطفى بأن جده إبراهيم الفردان الملقب «بطبيب اللؤلؤ» هو ممن ذاع صيتهم في مهنة صيد اللؤلؤ وتجارته، وهو من قام بتصميم عقد شهير لسيدة الغناء العربي أم كلثوم بناء على طلب إحدى الشخصيات الخليجية الكبيرة.

ويتحدث مصطفى عن مناطق الغوص واللؤلؤ الوفير التي كانت محصورة بين دبي وأبوظبي وكان يقصدها كل سكان الخليج العربي بهدف صيد اللؤلؤ.. ويشرح مصطفى دور كل قطعة من القطع التي كان يستخدمها الغواص أو ما كان يعرف باسم الغيص فهذا مثلا (الديين) وهو شبكة مصنوعة من خيوط متشابكة، يعلقها الغواص في رقبته، ويضع المحار بداخله، وقد يحتوي هذا الشبك على أكثر من أربعين صدفة وقبل أن يغطس الغيص كان يعلق في إصبع قدمه حجرا يعرف بـ«الزبيل»، عادة ما يصنع من الرصاص الثقيل، ويبلغ وزنه 10 كيلوغرامات ليزيد من وزنه ويدفعه باتجاه الأسفل بسرعة، ليستفيد من مدة الغوص التي لا تتجاوز عادة الدقيقتين لكن من جملة ما جمعه مصطفى الفردان روايات تناقلها الناس تتحدث عن أن احدهم في ذلك الزمان كان بإمكانه أن يغوص في الماء من 4 إلى 4.5 دقيقة، وهو الأمر الذي كان يتنافس عليه الغواصون ويغيظ الربان (النوخذة) لأنه ينهك الغواصين ويقلل إنتاجهم.

في ركن آخر يلف مصطفى مجموعة من الحبال.. إنها (اليدا)، وهو الحبل الذي يستخدمه الغواص للرجوع إلى السفينة ليرتاح قليلا ويأخذ نفسا، إذ يحرك الغواص هذا الحبل بقوة فيقوم رجل آخر يقف على ظهر السفينة (السيب) بسحبه بسرعة ويتسلم منه الشبكة المملوءة بالمحار (الديين) ليفرغه ثم يعود الغواص إلى عمق البحر مرة أخرى.. وليحافظ الغواص على أنفه مغلقا كي لا يدخله الماء كان يستخدم ملقطا (الفطام) يصنع عادة ـ وفقا للفردان ـ من أظلاف الغنم، وكان عادة سريع العطب بسبب كثرة عمليات الغوص للغواص الواحد والتي كانت تصل في بعض الأحيان إلى خمسين مرة يوميا. معدات أخرى كثيرة يزخر بها هذا المتحف الخاص، فلكل فرد على السفينة معداته الخاصة وفقا للوظيفة التي يقوم بها سواء كان غواص (الغيص) أو ربان(النوخذة) أو مساعد غواص (السيب) وحتى من يفتحون المحار ليخرجون منه اللؤلؤ. ويرفض مصطفى الفردان بشدة أن يبيع هذه المقتنيات مقابل أي مبلغ كان، لكنه مستعد لتقديمها مجانا لمتحف وطني في الإمارات يؤرخ لتاريخ اللؤلؤ في البلد «قصدت بعضا من الإخوة المسؤولين بهدف إنشاء مثل هذا المشروع، لكني لم ألق الاهتمام المطلوب، فلا بد أن يكون لدينا متحف يؤرخ لهذه المهنة للساحل الشرقي للخليج». يتابع مصطفى «أنا مستعد أن أمنح جل وقتي لهذا الموضوع، فأنا لا أزال هاويا، وإنشاء متحف متخصص أمر ليس بهذه السهولة، فهناك مقتنيات من مهنة الغوص لدى بعض الإماراتيين، لكن من الصعب جمعها، وهي بحاجة إلى دور تضطلع به جهات رسمية وإلا فقد نفقد تراث مهما لمنطقتنا».

بعد زيارة المتحف والاطلاع على تاريخ الغوص تدرك كم كانت مضنية مهنة الغوص بالفعل، وكم صبر أهل ذلك الزمان على ضنكها وشقائها.. فلم يكن هناك سبيل إلا الغوص.. يقول الفردان «بسب قلة الموارد قسم الله أن يكون رزقنا في أعماق البحر، «وإيش ساقك ع المر غير الأمر منه».