صناعة «العقال».. مهنة يدوية توارثها الدمشقيون عن الأجداد

10 ورش فقط تعمل بها حاليا

«أبو ماهر» قشلان في ورشته لصنع العقل («الشرق الأوسط»)
TT

تعتبر مهنة صناعة «العقال»، الذي يوضع مع الحطة أو «الكوفية» أو الشماغ، إحدى المهن اليدوية التي اشتهر بها حرفيو مدينتي دمشق وحماة السوريتين. ولقد وجدت لها ورش خاصة في الأسواق القديمة، وخاصة في سوق مدحت باشا، وسوق الصوف القديمين بالعاصمة السورية دمشق. تعود بدايات هذه الصناعة الحرفية إلى مئات السنين، وبرع الصانعون السوريون بإنتاجها من خيوط الحرير والأنسجة الأخرى. وكان الكثير من رجال الأحياء الشعبية الدمشقية يضعون «العقال» ـ أو كما يسمى أحيانا «البريم» ـ وكذلك معظم سكان البادية السورية من الرجال والشبان، على رؤوسهم. ويشير البعض إلى أن تسمية «البريم» جاءت من واقع أن «العقال» يصنع على شكل دائري «مبروم»، أي ملفوف، أو «يعقل» على الرأس فيسمى «عقال».. أو «عكال» بلهجة سكان البادية. غير أن التطور الذي حصل في العقود الأخيرة في لباس الدمشقيين خصوصا، والسوريين بشكل عام، قضى بتخلي الكثير من الرجال عن لبس «العقال». وبالتالي، أدى هجر هذا الجزء من الزي العربي التقليدي، إلى تناقص عدد الحرفيين الذين يمتهنون تصنيعه بشكل ملحوظ.

من العائلات التي توارثت صناعة «العقال» في دمشق عائلة قشلان، التي اشتهر أبناؤها بهذه المهنة بعدما لم يعد يعمل فيها سوى عدد محدود من الحرفيين المتقدمين في السن، وعزف جيل الشباب عن تعلم أصول المهنة. ومن ثم كان من الطبيعي تقلص عدد الورش. غير أن الوضع شهد بعض التحسن ـ أو قل الانفراج ـ خلال السنوات العشر الأخيرة، عندما فتحت أمام الصانعين القلائل الصامدين أبواب تصدير إنتاجهم إلى بلدان الخليج العربي، حيث يسجل الطلب على «العقل» (جمع «عقال») السورية المصنعة تزايدا سنويا لافتا، هو في الحقيقة، ما أنقذ هذه المهنة العريقة من الانقراض. ويمكن القول إنه بعثها من جديد، وبخاصة، في مدينة حماة وسط غرب سورية. الحرفي «أبو ماهر» موفق قشلان، الذي يمتلك ورشة متخصصة بتصنيع «العقل» في سوق الدراع المتفرع من سوق مدحت باشا، القريب من سوق الحميدية في دمشق، الذي ورث المهنة عن أبيه وجدوده، قال لـ«الشرق الأوسط»: «أعمل في مهنة صناعة العقال منذ 65 سنة، ومعظم إنتاجنا الحالي يصدر إلى دول الخليج بعدما تخلى السوريون منذ عشرات السنين عن اعتماره مع الحطة أو «الكوفية». ونحن نصنعه حاليا بشكل يدوي، وكنا في السابق نحضر الخيوط المصنعة من النايلون أو الحرير أو الصوف الشاب، إلا أن أثمنها هو الخيط المسمى «صوف مرعي» وكان يأتينا مستوردا من الخارج، وخاصة من بريطانيا. وحاليا صارت هناك ورش تحضر الخيوط باستثناء خيط «الصوف المرعي»، الذي لا يزال يأتينا من بريطانيا، ويطلق عليه أيضا مسمى «الخيط اللندني»، وهو صوف ماعز. وبعد حصولنا على الخيوط نقوم بلفها بشكل دائري بواسطة ماكينة خاصة، ومن ثم تبدأ مرحلة العمل اليدوي، حيث نبرمه على بعضه بحوالي 300 لفة ليكون العقال جاهزا. ومن المراحل اليدوية أيضا هناك مرحلتا التحبيكة والتكعيبة، ولـ«العقال» جدائل حيث توضع في نهايتها «الطرة» وهي من الخيط نفسه. وتابع «أبو ماهر» شرحه قائلا: «نحن ننتج العقل بمقاييس مختلفة حسب رأس الشخص فهناك قطر 50 وقطر 52 وقطر 54 وقطر 56....». عن سبب طغيان اللون الأسود على «العقال»، قال قشلان: «من المعروف منذ القدم مثل شعبي يقول «ما يرد الشمس يرد الحرارة المرتفعة» ولذلك يحمي العقال الأسود لابسه من حرارة الصيف المرتفعة، ويعطي رطوبة للرأس. وفي الزمن القديم كانت هناك أنواع كثيرة من «العقل»، منها «العقال» المؤلف من ثلاث دوائر ويسمى «العقال الفيصلي» وهو من زمان الملك فيصل الأول (أول ملوك العراق) وكان يلبسه ودرج في ما بعد في النصف الأول من القرن العشرين المنصرم، وهذا النوع الطلب عليه قليل جدا حاليا، وزبائنه فقط رجال الدين ومخاتير الحارات الشعبية، وهناك حرفيون قلائل يصنعونه، أبرزهم من عائلة الشويكي الدمشقية في سوقي العقادين والخياطين بدمشق القديمة». وتابع، «العقال عبارة عن زي، وكان في السابق يصنع بسماكة 15 سم، والسبب أنه يحمي راكبي الخيل والمحاربين من الطلقات، فإذا ما وجهت طلقة رصاص على رأس المحارب فإنها تصيب العقال السميك، وهذا كان يفيد الثوار أثناء حربهم مع الفرنسيين في غوطة دمشق والمدن الأخرى أيام الانتداب الفرنسي على سورية(!)». وحول الوقت الذي يتطلبه صنع العقال الواحد، قال «أبو ماهر»: «هناك أكثر من حرفي يساهم في تصنيعه، وورشتي تنتج يوميا حوالي 500 عقال. وحاليا يوجد في دمشق حوالي عشر ورش لتصنيع العقل، ولكن معظم العاملين فيها من كبار السن، بينما لا يرضى الشباب بالإقبال على احتراف هذه المهنة، فحتى أولادي رفضوا أن أورثها لهم كما ورثتها عن والدي وجدي. مع هذا، باعتقادي ـ يضيف «أبو ماهر» ـ أن هذه المهنة لن تنقرض، وذلك بسبب الطلب عليها من بلدان الخليج، ومن منتجي المسلسلات التلفزيونية التراثية، وكذلك من منظمي المهرجانات الفولكلورية، ومن أعضاء فرق العراضة الشامية التقليدية. وحتى لو تراجعت كثيرا أو لم يعد يعمل بها أحد في السنوات القادمة، أتوقع أنها ستبقى موجودة بشكل مقبول في مدينة حماة، حيث توجد ورش ويوجد حرفيون بأعداد جيدة تدربوا عندنا هنا في دمشق، وكذلك لديهم تفنن بتصنيع العقل، ويلبون طلبات الزبائن حسب رغباتهم، فهناك العقال المحضر بالخيط الناعم أو الخشن، وهناك العقال الحرير الذي تصنعه النساء حياكة على السنارة، وله موديلات كثيرة تتغير كل فترة، كما تتغير موديلات الألبسة».