«المونة» اللبنانية.. فرضتها الحاجة ولم تلغِها الثلاجة

ما زالت تشكل جزءا أساسيا من التقاليد على الرغم من انتفاء معظم أسباب ابتكارها

يشكل زيت الزيتون أحد المكونات الرئيسية في المونة وحفظها («الشرق الأوسط»)
TT

مع إيذان فصل الصيف بالانتهاء واقتراب فصل الخريف تبدأ العائلات اللبنانية، ولا سيما القروية منها، بالتحضير لـ«المونة»، مونة الشتاء، أو مونة السنة، من المربات والمجففات والمقددات والألبان والأجبان واللحوم، بصرف النظر عن التحضيرات الأخرى، ولا سيما للعام الدراسي وما يفرضه من أقساط وكتب وملابس وغير ذلك.

وتشكل المونة، منذ القدم، جزءا أساسيا من تقاليد العائلة اللبنانية، ويحرص كثير من العائلات على التمسك بهذا التقليد، على الرغم من انتفاء معظم الأسباب التي كانت وراء ابتكاره. ومن بين تلك الأسباب كانت صعوبة التنقل، ولا سيما في الجبال، وعدم توافر الخضراوات والفواكه إلا في مواسمها التقليدية، وعدم توافر اللحوم بشكل يومي، والشيء نفسه بالنسبة إلى مشتقات الحليب على أنواعها. ورغم أن كل هذه الأسباب زالت، فإن كثيرا من العائلات القروية، وحتى في المدن، يواظبون على التمون لأنه يشيع البركة في المنزل ويؤمن الكفاية في زمن الانشغالات وضيق الوقت.

ويمكن تقسيم المونة اللبنانية إلى خمس مجموعات رئيسية هي: اللحوم، الألبان والأجبان (أي مشتقات الحليب)، الفواكه، الخضراوات، والحبوب. فاللحوم كانت تحول إلى مقددات، وبالأخص إلى «قورما»، وهي كناية عن كمية من اللحوم مفرومة «رأس عصفور» كما تقول ربة العائلة، وتغمس بالدهن المسيل الذي يحفظها من التلف، وتحفظ في آنية فخارية يطلق عليها المسامن (جمع مسمنة)، وتؤكل مع البيض المقلي أو تنثر على الحمص المهروس وسائر المتبلات، أو تستخدم في الطبخ. وعلى الرغم من انتقاء دوافع هذا التقليد، لا يزال كثيرون من اللبنانيين يتناولون هذا الغذاء بشهية، وكثير من المطاعم تعتمده بناء على رغبة الزبون، فيما يسقطه من الحسبان أنصار الريجيم والنحافة والقد الرشيق.

وإذا انتقلنا إلى مشتقات الحليب لوجدنا أن ربة العائلة تهتم بإعداد الجبنة البلدية البيضاء، واللبنة «المكعزلة»، أي التي تحول إلى كرات وتغمس بزيت الزيتون لكي تدوم فترة طويلة، بالإضافة إلى «القريشة» المالحة، والتي يسميها بعضهم «امبريس»، وهي تقضي بوضع اللبن في جرة مثقوبة ثقبا صغيرا جدا، لكي يتسرب منه مصل اللبن بحيث يتم تخمر هذا الأخير مع الوقت، ويصبح مشتهى أفراد العائلة. ومن الحليب أيضا يحضر «الشنكليش» على شكل كرات كبيرة مغمسة بمسحوق الصعتر الجاف، وبعضها ممزوج بالفلفل الحار. ولعل المونة الأهم من مادة الحليب هو «الكشك» الذي يكاد لا يخلو بيت لبناني منه، وتحرص كثير من العائلات على تحضيره منزليا بدلا من شرائه، وأفضل وقت للتحضير هو «التشارين» لأن الحليب يكون دسما. ويؤكل الكشك «الأخضر» مع الزيت، أي قبل أن يجفف تحت أشعة الشمس، ويفت على اليد أو يرسل إلى المطحنة لطحنه، ويعد وجبات شتائية بصورة خاصة، مع اللحم المفروم والثوم المقلي.

وإذا كان التمون بالحبوب يتم عبر المطاحن أو شرائها من أصحابها مباشرة، فإن سكان القرى كانوا يلجأون بشكل عائلي أو جماعي لسلق القمح وتجفيفه، ومن ثم تحويله إلى برغل بأنواعه وأحجامه المختلفة، فمنه الأبيض والأسمر ومنه الناعم والخشن. ولكل من هذه الأنواع والأحجام استخداماتها كبديل عن الأرز في كثير من الأحيان، ولعل أبرز تلك الاستخدامات يكمن في «التبولة» و«الكبة» على أنواعها، والكشك، وكلها وجبات لبنانية تقليدية. من دون أن ننسى وجبة «الفريكة»، وهي عبارة عن شيّ القمح الأخضر الناضج، ثم فركه باليدين لنزع القشور ثم تجفيفه ليعد للطبخ مع اللحم عندما يتعذر وجود الأخضر. وكانت البيادر (جمع بيدر) تشكل، بعد مواسم الحصاد، السبيل إلى الحصول على الحبوب بأنواعها، ولكنها اليوم استبدلت بالمطاحن الآلية وتحولت جزءا من التراث اللبناني.

ولا شك في أن الخضراوات والفواكه تحتل حيزا مهما من المونة اللبنانية ومن خزائن المطابخ في بيوت القرى والمدن على السواء، فإذا أخذنا الخضراوات نجد أن «الكبيس» بأنواعه هو نجم المونة، حيث يوضع في آنية زجاجية محكمة الإغلاق مع الخل والملح، وأبرز الكبيس هو الخيار والقثاء (المقتي كما تعرفه العامة في لبنان) واللفت، والقرنبيط، وأحيانا نخلط هذه الخضراوات في إناء واحد يضاف إليها الثوم والجزر والملفوف. أما الباذنجان فيكبس وحيدا مع حشوه بالثوم المدقوق والفلفل بحسب الطلب، وربما كان «مكدوس» الباذنجان هو الأشهى، حيث يحشى بالجوز المدقوق و«يكدس» بالزيت بدلا من الخل.

وتأخذ البندورة اللبنانية (الطماطم) مكانها في مسلسل المونة، حيث تفرم وتوضع في زجاجات محكمة الإغلاق ووضعها في ماء مغلي بعض الوقت والاحتفاظ بها إلى الأوقات التي يندر فيها وجود البندورة الطازجة أو التي ترتفع أسعار المستورد منها. وإلى جانب البندورة المفرومة هناك «رُبّ» البندورة الذي لا يخلو منزل منه، حتى تكاد لا تخلو منه «طبخة» واحدة، وغالبا ما يعد هذا «الرُّب» في القرى على الحطب، وفي آنية نحاسية واسعة يقال لها «اللكن». ومع دخول «الكاتشاب» حديثا إلى المائدة اللبنانية بدأت بعض العائلات تعده بيتيا لتماثل إعداده مع «الرُّب».

ولا تستقيم المونة من دون الصعتر المدقوق الذي يضاف إليه السمسم المحمص والسماق، ويعد للمناقيش والاستعمالات الأخرى، هذا فضلا عن «الزهورات»، وهي عبارة عن أعشاب برية كالزوفى والبابونج والخطمية وأعشاب بيتية كورق الورد والنعناع، وزهر الاكيدنيا و«شوشة» الذرة وغير ذلك، كلها تغلى بالجملة أو المفرق ويشرب ماؤها، كل لمنفعة خاصة.

تبقى الفواكه، فحدّث عن مونتها ولا حرج. وهي تبدأ بالمربات، بدءا بمربات المشمش وانتهاء بمربات الورد، مرورا بالتفاح والسفرجل والخوخ والكرز والفريز (الفراولة)، بالإضافة إلى التين المجفف والزبيب (العنب المجفف تحت أشعة الشمس) والجوز واللوز والتين المسطوح (أي الذي ينشر على السطوح تحت أشعة الشمس) الذي يأخذ طريقه لاحقا إلى الطبخ ليتحول إلى مربى، يضاف إليه السمسم والسكّر والمسك. ولا تغيب من خزائن المونة قوارير ماء الزهر وماء الورد ودبس الرمان، فيما يحتل الزيتون المرصوص والمكبوس مكانة مميزة في المطبخ اللبناني، وكذلك زيت الزيتون.

وإذا كانت كل أصناف المونة تخزن في الماضي في خزائن المطبخ أو على رفوفه، أو داخل «التتخيتة» (تبنى عادة فوق المطبخ أو فوق المرحاض)، فإن الثلاجة اليوم أصبحت هي البديل الأسهل والأقرب لبعض تلك الأصناف، من دون أن تسقط الحاجة إلى الخزائن والرفوف والتتخيتات.