رقصة بائع العرقسوس تغيب عن ميادين القاهرة

«حمادة الصعيدي» تخلى عنها في رمضان.. و«عم سيد» يؤديها ليلا

حمادة الصعيدي ورث المهنة عن والده («الشرق الاوسط»)
TT

خلال شهر رمضان الكريم تغيب «رقصة الظهيرة»، عن طقوس بائع العرقسوس، فالناس صيام، ولا معنى أن يؤديها لنفسه في شوارع وميادين القاهرة.. يحيط بائع العرقسوس خصره بحزام عريض من الجلد، ويعلق على كتفه إبريقه الزجاجي الكبير الذي يملؤه بمشروبه السحري المثلج، وحين يكرمه الله «بزبون»، يقوم برقصته الشهيرة، فيدور بجزعه دورة أو دورتين، ثم يميل كثيرا ناحية اليمين، وهو يحمل في يده اليمنى كوب العرقسوس، يقربه ويبعده بحساب، لكي يضمن أن تعلوه «رغوة» ذهبية تتوج الكأس الزجاجي المثلج.

و«رقصة الظهيرة» ليست طريقة لجذب الانتباه فحسب، ولا هي محاولة لاستعراض مهارات خاصة، بل لها فائدة محددة، فمن خلالها يعيد تقليب مشروبه في الإبريق فيضمن توزيعا مناسبا للتركيز فلا يظلم ولا يُظلم.

قديما، حين كان الناس حريصين على مراعاة التقاليد والأصول، كان بائع العرقسوس يضيف إلى حزامه ذاك، ما يشبه الأدراج، يستعين بها من أجل وضع قروشه القليلة، وأداته النحاسية أيضا.

وهي عبارة عن طبقين من النحاس، يشبهان إلى حد كبير «صاجات» الراقصات المصريات اللاتي يستخدمنها في الأفراح الشعبية، لكنهما أكبر حجما، ومن خلال رنينهما النحاسي المجلجل يعلن عن حضوره، يرافقه في ذلك نداؤه التراثي الشهير «شِفا وخَمِير.. يا عرقسوس». «عم سيد»، لا يعرف معني كلمة «خمير» في ندائه، لكنه يظن أن لها علاقة بطريقة تحضير المشروب.. حين سألته تردد وربما ارتبك ثم قال: «الله أعلم.. بس هي معناها إنه منقوع». ومن معانيها الرائحة الطيبة. يؤكد على ذلك الخبراء، فالعرقسوس شفاء، وبحسب خبرتهم وعلمهم يعد مقويا لجهاز المناعة، ومضادا للفيروسات، ومضادا حيويا يعالج العدوى بالجهاز التنفسي، ومضادا للحساسية، كما أنه يعالج الكحة والتهاب الحلق، ويلطف ويزيد المادة المخاطية التي تحمي جدار المعدة، كما يقلل العرقسوس من إفراز الحامض بها، ويساعد في الشفاء من قرحة المعدة، ويساعد أيضا على هضم الطعام، والشفاء من الالتهاب الكبدي. وهكذا دخل هذا النبات من الباب الواسع للطب الشعبي.

حمادة الصعيدي ورث المهنة عن والده، أشار إلى الجزء المعدني من إبريقه، وقال: «دا اللي فاضل من أيام أبويا الله يرحمه».. وفي عرف حمادة يعتبر الصيف موسم العرقسوس بامتياز، ويرى أن اجتماع الصيف ورمضان في غير صالحه، لكنه يقول قاطعا: «رمضان كريم.. دا شهر رزق وبركة».

وعلميا يعتبر نبات «العرق سوس» من الأعشاب المعمرة، يتميز بأزهار زرقاء ناعمة، ويستخدم في تصنيع الأدوية لإخفاء النكهة غير المستساغة، كما يضاف إلى التبغ، والسيجار، والمشروبات الغازية، والحلوى. ولخلاصة ألياف جذوره فائدة كبيرة في تصنيع رغاوي إطفاء الحريق.

وربما كانت هذه الخاصية الأخيرة بالذات هي السبب الذي جعل من بائعه الجوال واحة الصيف الظليلة. فبكوب منه تعود المصريون أن يطفئوا قيظ الثانية من بعد ظهر يوم عمل شاق. يمنحهم مسحة من صبر يعينهم على زحام الطريق.

الطريف أنه خلال أزمنة طويلة، ظل العرقسوس مشروب الحكام والأمراء وعلية القوم. كان هذا منذ زمن الفراعنة الذين استخدموه في مناحي شتى. لكن ومثل أشياء كثيرة في أعراف المصريين، يعود الفضل للفاطميين في أن يصبح هذا المشروب متاحا للعامة.. ويرتبط بعد ذلك بطقوس شهر رمضان.

هذا التاريخ وتغير الأحوال فطن إليه «حمادة»، أحد باعة العرقسوس، ففي رمضان لا يلاحق حمادة رزقه في الميادين، إذ إن استراتيجية مداعبة عطش زبونه لا معنى لها في نهار رمضان، وبدافع من محبة المشروب العريق وشهر رمضان الفضيل، غير حمادة استراتيجيته بتكتيك المنصة، حيث يستأذن صاحب محل بقالة في حارته و«ينصب» مائدة أمامه قبيل الإفطار، يجهز عليها أباريق «العرقسوس» و«السوبيا» و«التمر هندي».

وعلى عكس حمادة، لا يتخلى «عم سيد» العنيد عن عدته، ويجرب مناطق الزحام الرمضانية.. فهو يعتقد أن «العرقسوس البيتي» والمشروبات الأخرى التي بدأ المصريون في إعادة اكتشافها كالخروب والدوم والتمر هندي، ستنافسه بضراوة إذا اعتمد على تكتيك حمادة الصعيدي، وهكذا يصبح الراغبون في الاستمتاع بليالي رمضانية في الخارج هم رهانه لكسب لقمة عيشه.

حالة بائع العرقسوس وطقوسه اقتحمت بقوة ذاكرة الفنانين التشكيليين في مصر، فاستضافه كثير منهم في لوحاتهم، ومن هؤلاء الفنانين محمود سعيد، وسيف وانلي، وعصمت داوستاشي. فبائع العرقسوس، من بين كل الباعة الجائلين، يمثل مفردة فنية وأصيلة من المأثور الشعبي للمصريين.

وعلى الرغم من شلال العدوى الذي أصاب الحياة الاجتماعية في مقتل، خاصة بعد انتشار فيروس إنفلونزا الطيور والخنازير، ثم التيفود، مما جعل البعض يتحفظ على شربه من الباعة الجائلين في الشارع خشية انتقال العدوى؛ على الرغم من ذلك، فإن حمادة الصعيدي وعم سيد يقفان على أرض صلبة، يظللهما تاريخ عريق، وقيظ الظهيرة، وطقوس رمضان، كما تحميهما البراعة في الصنعة، وقبل كل ذلك الذمة والضمير، وعلى حد قول عم سيد نفسه «الغشاش بكاش.. مين هيصدقه»؟!