أبو صالح يحاول الحفاظ على تراث صناعة الجلديات في «سوق السروجية»

بعدما تحول معظم حرفييها الدمشقيين عنها

المحل الصامد في «سوق السروجية» («الشرق الأوسط»)
TT

كحال معظم الأسواق الدمشقية القديمة التي تخصصت في صنع منتج يدوي معين وبيعه، اشتهرت «سوق السروجية» (نسبة إلى السروج، جمع سرج) القريبة من سوق الحميدية، والتي يفصلها عن سور قلعة دمشق أحد فروع نهر بردى، منذ تأسيسها بصناعة الجلديات اليدوية، وبشكل خاص مستلزمات الخيل والخيالة من سروج وغيرها. وقد اتسع نطاق أعمال حرفييها ليشمل أنواع «الجناد» أو الحزمة الجلدية الخاصة بالصيادين، حيث يوضع خرطوش البنادق، وكذلك أحزمة الريفيين الذين يزنرون بها خصورهم على الجلابية، التي يرتدونها ويضعون في الحزام ذي الطبقتين أموالهم حتى لا تضيع منهم أو تسرق وهم يتجولون في المدينة.

إلا أن زائر «سوق السروجية» هذه الأيام سرعان ما يكتشف أن معظم حرفييها ومحلاتها تحولت عن صناعة الجلديات التراثية واستعاضت عنها ببيع البلاستيك والنايلون وغيرها بما يتماشى مع العصر، باستثناء الحرفي «أبو صالح» محمد علي بكداش، الذي ظل وفيا لمهنة أجداده في صناعة الجلديات، بل وعمل على توريث ابنه هذه المهنة وشجعه على تطويرها باستخدام الكومبيوتر. أما الشيء الطريف الذي ميز «أبو صالح» ويلفت انتباه السياح والزوار الذين يزورون بكثافة منطقة «سوق السروجية» نظرا لوجود القلعة وسوق الحميدية بجوارها، فهو أن «أبو صالح» ابتكر طريقة مميزة وبسيطة، في الوقت ذاته، لبيع الزبائن ما يعجبهم من منتجاته الجلدية.

فـ«أبو صالح» الذي يمتلك محلا في وسط «السوق»، يفصله عن الشارع فرع النهر، يقع محله في الطابق الثاني من أحد المباني، ويحتاج الداخل إليه لصعود درج ضيق. وبما أن للمحل شرفة، فإن «أبو صالح» يعرض عليها منتجاته، وكي لا يربك الزبون الذي قد يتوه عن المحل أنشأ سكة من المعدن والحبال وربط بها سلة من القصب بحيث يمكن للسلة أن تنزل حتى مستوى الشارع ومن ثم ترتفع لتصل إلى الشرفة. وهكذا، ما على الزبون إلا أن ينادي على «أبو صالح» من الشارع ليطلب منه ما يريده من الجلديات حتى يلبى بالمطلوب في السلة وينزله على السكة الحديدية.. فيستلم الزبون طلبه ويضع ثمنه في السلة. وهكذا استطاع «أبو صالح» التغلب على مشكلة فرع النهر الفاصل بين محله والشارع.

وأسأل «أبو صالح» عما إذا كان يخشى أن يأخذ الزبون ما يريده من دون أن يدفع ثمنه، فيجيب ضاحكا: «لم يفعلها أحد يا رجل منذ تطبيقي هذه الطريقة قبل سنتين، فالناس ذمتهم جيدة، والكثير من زبائني من السياح الأجانب الذين استهوتهم منتجاتي وطريقة بيعي وعرضي لها على الشرفة المطلة فيشترونها للزينة وكتراث شرقي».

ويشرح محمد علي بكداش لـ«الشرق الأوسط» حالة المهنة فيقول: «توارثنا مهنة الجلديات اليدوية أبا عن جد، وجميع منتجاتنا الجلدية مصنعة باليد، إذ لا تدخل فيها الآلة مطلقا، وكل منتج لدي لا يشابه المنتج الآخر حتى ولو كان من الطراز نفسه. ومن هذه المنتجات التي لها تسميات محلية، ومنها ما يعود لأيام ثوار الغوطة أو لأهل البادية مثل (زنار فشك)، حيث كانت هناك خمسة جيوب في الزنار توضع فيها الطلقات ويخصر بها الرجل وهي للزينة، ومن منتجاتنا (زنار الصياد) و(زنار الحاج) إلى مكة المكرمة حيث يوجد في الزنار جزء مخفي يضع الحاج فيه أمواله. ونصنع أيضا وبشكل يدوي أحزمة خاصة بمرضى الروماتيزم، وهو حزام للظهر وله عدة أشكال. ومن زبائننا الرياضيون ومنهم بالأخص الرباعون (رافعو الأثقال). وهناك أحزمة ننفذها بناء على طلب الأطباء. ثم إننا نصنع أيضا بيوتا (حمالات) جلدية للمسدسات وأطواقا للقطط وهي للزينة، وأغطية جلدية لرؤوس الطيور، خاصة الصقور».

ويتابع «..وهناك علب جلدية خاصة بماكياج النساء، وكان من أكثر زبائنها النساء الفرنسيات أيام الانتداب الفرنسي حين كان والدي يصنعها بشكل مبتكر. ومن المبتكرات التي ورثتها عن والدي ولها زبائن يطلبونها اللوحات الفنية التراثية المنفذة من الجلد الطبيعي وبشكل يدوي وعليها زخارف شرقية، ولدينا منتجات مزخرفة بشكل جمالي لعصي الخيالة التي تباهى الفرسان بمسكها وهم يركبون خيولهم». ويؤكد «أبو صالح» أن معظم ما يصنعه لا يمكن أن يصنع بشكل آلي «..ولذلك لا توجد مصانع تصنع مثل هذه المنتجات، بل كلها تصنع في ورش يدوية، حيث تحتاج لجدل أحيانا، وباليد وتأخذ وقتا طويلا أحيانا». وحول مراحل عمل هذه المنتجات يقول: «نحن ننفذ طلبات الزبون. مثلا البعض يطلب صدرية صيد فآتي بالجلد وهو جلد بقر أو ماعز وغيره من الدباغات وأقطعه. والجلد أنواع، منه القاسي والطري والخفيف.. والأخير كنا نصنع منه جرابات جلدية ويأخذونها للوقاية من الثلج في الشتاء أو لأسباب طبية. والمرحلة التالية هي الزخرفة باليد على المنتج الجلدي وكتابة أسماء أشخاص أحيانا بناء على طلب الزبون من نوع التراث والمباهاة، أو أحيانا نرسم على المحافظ الجلدية رسوما من التراث الدمشقي كالجامع الأموي حيث أرسمه في البداية ومن ثم أنقشه على الجلد».

ثم يقول أبو صالح: «أنا أمي، لكنني أستطيع نقل الكلمات كما هي مكتوبة أو رسمها من مخيلتي، وأحيانا يساعدني ابني بلال فيها.. فيكتب العبارة المطلوبة على الجلد وأنا أقوم بنقشها. وبلال ورث المهنة عني كما ورثتها عن والدي مع أنه يحمل شهادة البكالوريا، والجميل أنه قرر التفرغ لهذه المهنة وتطويرها من خلال الكومبيوتر».

ويتحدث بلال فيقول: «شاهدت والدي كيف يعشق هذه المهنة فقررت أن أعمل معه وأطور النقوش والأدوات باستخدام الكومبيوتر، كوني أجيد العمل عليه، وبالتالي سأعمل على مزاوجة التراث والمعاصرة فيها. وسأنفذ رغبة والدي في المحافظة على مهنة الجلديات اليدوية حتى لا تنقرض في المستقبل».