السياح والأطفال.. زبائن بائعي الماء في مراكش خلال نهار رمضان

في معظم الأحيان أصبحت الصور بديلا عن ماء القِرَب البارد

السقاؤون يتجولون في ساحة جامع الفنا خلال شهر رمضان مرتدين زيهم التقليدي المميز («الشرق الأوسط»)
TT

لم يمنع شهر رمضان الكريم وجود السقائين بساحة جامع الفنا بمراكش، بزيهم المميز والقِرَب التي يعلقونها وهم يقدمون الماء للسياح والأطفال وينتظرون أن يجود عليهم الناس بما تيسر. لا أحد من الصائمين تعجب من نزول «بائعي الماء» إلى الساحة الشهيرة لعرض بضاعتهم على السياح، غير آبهين بطقوس شهر الصيام، وخاصة أن مَقدم رمضان تزامن هذا العام، مع ارتفاع درجات الحرارة.

وغير بعيد عن المكان الذي وقف فيه السقاؤون، بزيهم الأحمر وكؤوسهم النحاسية، جلس سياح، في مطعم يقع بالقرب من سينما «مبروكة»، بممر «البرانس»، يلتهمون ما لذ وطاب من «كسكس» ومشويات ومرطبات، في منتصف النهار، أكـل وشرب متاحان أمام السياح، لكنهما في غير متناول الصائمين من المسلمين. ويبدو أن شهر رمضان هو أفضل موعد للوقوف على عالمية المدينة الحمراء، التي صار يقصدها سياح من مختلف الديانات والأعراق.

وإلى عالمية مراكش، التي تطلبت أن تفتح المطاعم والمقاهي أبوابها في رمضان، اقتنع السقاؤون، منذ سنوات، بأن وظيفة الديكور ورغبة رواد الساحة في أخذ صور لهم أو معهم، هي أشياء غطت على الحاجة إلى إرواء العطش. عبد الرحمن، أصغر ثلاثة سقائين التقيناه بالقرب من نادي المتوسط، الذي يقع في ما بين ساحة جامع الفنا وصومعة الكتبية، لا يتوقف عن تحريك الجرس الصغير، الذي يشكل صوته دعوة لمن به رغبة في إرواء العطش، في ذلك الصباح الرمضاني. وفي المقابل، يتوجه الثلاثة، بين الحين والآخر، إلى السياح، بشيء من الفرنسية أو الإنجليزية، بسؤال إن كانوا يرغبون في أخذ صور لهم أو معهم. ويتشابه السقاؤون المراكشيون الثلاثة، الذين التقيناهم، في زيهم، وهو زي يوحد كل السقائين في مراكش، وفي باقي مدن المغرب، حيث إن كل واحد منهم يرتدي زيا أحمر اللون ومزركشا، ويعتمر قبعة كبيرة، ويتأبط «قربة» مملوءة بالماء، مصنوعة من جلد الماعز، بها صنبور من النحاس، بالإضافة إلى حقيبة مزينة بعملات معدنية مغربية قديمة، وأيضا أجنبية حديثة، ويمسك بيده جرسا صغيرا يقرعه للفت الانتباه إليه، وأواني وكؤوسا نحاسية وفضية، يعمل على تلميعها وتنظيفها باستمرار.

ويحرص عبد الرحمن، وباقي رفاقه الـ36، الذين يمتهنون حرفة «بيع الماء» بساحة جامع الفنا، على أن يقدموا بضاعتهم، ملبين رغبات الصغار والسياح الأجانب، فقط، خلال هذا الشهر الكريم. وهم مضطرون إلى الوقوف هنا، على مدار العام، ما دام أن وراء كل واحد منهم عائلة وأفواها كثيرة، تنتظر تلبية حاجياتها اليومية.

يخرج عبد الرحمن من محفظته الصغيرة بطاقة طبية تؤكد خضوعه بشكل مستمر لمراقبة طبية، من طرف المصالح المختصة بالمدينة، يمسد «عبيدة» صفيحة صغيرة من نحاس مكتوب عليها رقمه ومهنته (حمّال الماء)، قبل أن يقول إنه أمضى في ساحة جامع الفنا أكثر من خمسين عاما، يعمل في الوظيفة التي يطلق عليها المغاربة اسم «كراب» وهذا الاسم مشتق من «قربة» مع تحويل القاف إلى كاف، ماسحا الساحة بعينه، ومتذكرا شيوخ الحلقة و«حكم» الباشا الكلاوي، أيام الاستعمار الفرنسي. ويعترف عبد الرحمن وعبيدة بحقيقة أن هناك إحجاما من طرف المغاربة والأجانب على «ماء القِرب»، التي يحملونها على ظهورهم. ويقول عبيدة: «إن أغلب السياح الأجانب لا يقبلون على مائنا، وتجدهم يفضلون قنينات الماء المعدني، وكذلك الحال مع المغاربة، الذين صاروا يقبلون على (الماء المصنع)، بل تجد بينهم من يحمل معه (ماء الحنفية) من منزله، ليشربه كلما اشتد عليه العطش، مع أنه هو نفسه الماء الذي نملأ به قربنا، ولذلك صار صعبا علينا أن نضمن رزق يومنا من (بيع الماء) فقط، الشيء الذي دفعنا إلى بيع وقفتنا، هنا، لمن يرغب في أخذ صور تذكارية، معنا أو لنا».

ويرى عبد الرحمن أن له كامل الحق في أن يطلب مقابلا من السائح، الذي يلتقط صورة له أو معه، طالما أنه يؤدي ثمنا مقابل زيارة بناية تاريخية، فقط، لكي يستمتع بجمالها، ويأخذ صورة له، وهو بداخلها. فالسائح يرى في «السقاء» تحفة فنية وحضارية، وصورة تعرف بالمغرب الغني بثقافته، فلماذا نستنكر أن يطلب «الكرّاب» مقابلا؟ لكن، أريحية الناس، يستدرك عبد الرحمن، تبقى «هي المقياس الذي نضمن به بعض المال، ضمانا للعيش الكريم».

وباستثناء عبد الرحمن، تجاوز معظم «بائعي الماء»، في جامع الفنا، الخمسين، ولذلك تجدهم يتذكرون أيام الماضية بحنين ممزوج بتعب السنين. ويبدو أن الأيام الجميلة ذهبت إلى غير رجعة، وهي أيام كان فيها الإقبال على الماء الذي يعرضه «الكرّاب» ضرورة لإطفاء العطش. ولكن، «بيع الماء»، ككثير من المهن، لم تستطع أن تقف في وجه إعصار التطور، الذي جعل من تسويق الماء تجارة مربحة، من خلال تعبئته وعرضه للبيع على المغاربة في قنينات من أحجام مختلفة، من طرف شركات كثيرة.

وظل السقاؤون، في المغرب، عموما، يتخذون من الأسواق الشعبية وبعض البنايات التاريخية وساحات المدن الكبرى أماكن يبيعون فيها الماء لكل من به عطش، خاصة في بلد تسكن الشمس سطحه معظم العام. لكن، ومع الأيام، صار السقاء يشاهد تغير مظاهر الحياة أمامه بلا حول ولا قوة، بعد أن صار الماء يُسوق من طرف شركات عملاقة تملك قوة المال والتنظيم. بل، صار الماء يستورد من خارج البلد، ليعرض في الأسواق الممتازة، أمام المغاربة. ويستخرج الماء، الذي تتم تعبئته ليعرض للبيع في القنينات البلاستيكية، من مختلف مناطق المغرب، والقنينات بمختلف الأحجام، من ربع لتر حتى خمسة لترات. وبعد أن كان السقاؤون ينسّمُون «ماء القِرب» بالقطران، ذلك السائل الأسود ذي الرائحة «الغريبة»، فقد صار بإمكان ماء القنينات، أن يأخذ رائحة ونسمة التوت والليمون، ملخصا لترف زائد، رافق تحولات لم تترك للسقاء إلا أن يتحول إلى لوحة فولكلورية تقترب به، برأي البعض، من الاستجداء والتسول، ما دام أنه لا يستطيع أن يقف في وجه شركات تسويق الماء، مع ما تملكه من وسائل وإمكانات مادية تتسلح بالإشهار ونقط بيع المواد الغذائية المنتشرة في كل حي وشارع. وليس الماء، الذي تتم تعبئته في قنينات بلاستيكية، وحده الذي يساهم في قتل مهنة السقاء، بل حتى بيع وترويج المشروبات الغازية كان له نصيب وافر في ذلك، وخصوصا بعد أن دخلت، على خط الترويج، وسائل الإعلام وأصوات ووجوه العارضات والمغنيات الجميلات «المحرّضات» على استهلاك مياه طبيعية أو مشروبات غازية، بمختلف الألوان. ويبدو أن هذا الواقع الجديد، المرتبط بالتحولات المجتمعية وتطور وسائل العيش والحياة، هو الذي دفع عبد الرحمن، وأمثاله من «الكرابة»، إلى أن يتحولوا، تدريجيا، من مهمة ومهنة إرواء العطش، إلى ديكور يزين الساحات والأسواق الشعبية، وأن يقبلوا بأن تُسوق صورهم عبر بطاقات البريد، كجزء من صورة مراكش السياحية.