صيادو لبنان «يخرقون» القانون ويتحايلون على الطيور والعصافير

هوس بالصيد تتناقله الأجيال

التقاط الحسون بواسطة الدبق («الشرق الاوسط»)
TT

إذا كان اللبنانيون أدمنوا اقتناء قطعة سلاح حربي في منازلهم لألف سبب وسبب، فإن أي بيت لبناني لا يخلو من سلاح صيد، بكل أنواعه، بدءا من «بارودة الخردقة» وانتهاء بالـ«بومب أكشن» ذات الطلقات المتعددة، الأوتوماتيكية وغير الأوتوماتيكية، مرورا ببندقيتَي 9 ملم و12 ملم، و«الجفت» ذي الفوهة أو الفوهتين، وبارودة «الدك».

هذه الظاهرة أن دلت إلى شيء فهي تدل على أن اللبناني صياد بالغ الولع بحيث لا يخلو بيت أو عائلة من صياد، وغالبا ما يتعلم أفراد العائلة الذكور جميعا هذا «الكار»، حتى لو كان بعضهم دون السن القانونية. ولعل خير تعبير على «هوس» اللبناني باصطياد الطيور وما يستلزمه من رحلات ونزهات في الطبيعة، سهلا وجردا، وحتى خارج الأراضي اللبنانية، هو مخالفته لقانون منع الصيد، وحتى مخالفته لقانون تنظيمه. ويشارك في هذه المخالفة كبار المعنيين بتطبيق القوانين أنفسهم، سواء عبر ممارسة الصيد شخصيا أو عبر غض النظر عن الصيادين، الذين «يحتلون» السهول ويتسلقون الهضاب والقمم في «المواسم» المختلفة كمواسم الفري والسماني (بلغة العامة السمّن)، والترغل والوروار والكيخن والمطوق والحجل ودجاج الأرض والعابور وعصفور التين وغيرها من المواسم التي يحفظ الصيادون عن ظهر قلب، متى تبدأ ومتى تنتهي، ويحفظون «مقاوصها» (أماكن الصيد) على مساحة الخريطة اللبنانية. ولا يكتفي الصياد اللبناني بمخالفة قانون الصيد، بل يتفنن في الاحتيال على العصافير والطيور، إما تحايلا على القانون وإما استغلالا لـ«أطباع» هذه المخلوقات التي خلقت ليتنعم الإنسان بصوتها وشكلها ودورها في حفظ توازن الطبيعة، فإذا بحيل الصيادين تقضي عليها بالجملة، وحتى في مواسم الإباضة والتناسل.

وإذا أردنا أن نستعرض كل حيل الصيادين وفخاخهم ووسائلهم المبيدة لضاقت بنا العجالة، ويكفي أن نشير إلى بعضها. فحتى لا يمضي الصياد الوقت الطويل في الفوز بنصيب من طائر السماني، وحتى لا يتجشم مشقة «مشوار» الصيد إما لضيق الوقت وإما لقصور صحي، يلجأ إلى إضاءة شجرة ملاصقة للمنزل ليلا ووضع آلة تسجيل تبث أصوات هذا الطائر تحت الشجرة، وهكذا تندفع طيور السماني نحو الشجرة لتقع تحت مرمى سلاح الصيد بسهولة تامة. ومن لم يتسنَّ له وجود شجرة إلى جانب المنزل يعمد إلى رسم شجرة كبيرة على جدار خارجي من جدران المنزل ويسلط الأضواء عليها مستعينا بآلة التسجيل تلك، فتندفع طيور السماني نحو الشجرة اعتقادا منها أنها شجرة فعلية، فترتطم بالجدار وتسقط أرضا وتقع فريسة سهلة في قبضة الصياد.

وتُعتبر آلة تسجيل أصوات العصافير والطيور القاسم المشترك بين كل أو معظم الحيل والفخاخ التي يلجأ إليها الصيادون. وهناك من استحدث بديلا وهو الهاتف النقال الذي يبث أصوات العصافير، ويكفي أن يتجول المرء في يوم الإجازة الأسبوعية وغير يوم الإجازة في سهل البقاع أو في القمم والهضاب ليتناهى إلى سمعه كل أصوات العصافير والطيور التي لا تلبث أن تختلط بأصوات الطلقات النارية بما يشبه ساحات معارك وقتال.

ولا يترافق استخدام آلة التسجيل مع أسلحة الصيد فحسب، بل يكثر استخدامها للقبض على الحساسين مع استعمال قضبان الدبق (مادة لزجة لاصقة تُصنع من شجرة الدبيقة وتُمزج إما مع العسل وإما مع الدبس، والأول أجوده، وتباع هذه القضبان رزمة رزمة أو قضيبا قضيبا، ولا ينفع مزجها أيام الشتاء) على غصن مقتطع من شجرة ويشك في أرض عراء تعبرها الحساسين بكثرة. ويستخدم الصياد في بعض الأحيان قفصا وبداخله حسون مدرَّب، بدلا من آلة التسجيل، والغاية من اصطياد الحساسين بيعها لا أكلها. ويكاد استخدام هذه الطريقة يقضي على هذا الطائر الجميل الشكل والصوت، أو على ما ينجو منه داخل سورية في طريقه من تركيا إلى لبنان، باعتبار أن تجار العصافير في سورية يلجأون إلى حيل أدهى بحيث يسلطون الأضواء ليلا على أسراب الحساسين المندفعة من تركيا فلا تلبث أن تهوي أرضا ومن ثم التقاطها والاتجار بها داخل سورية ولبنان.

وثمة من يلجأ إلى استعمال الفخ وهو كناية عن حفرة بحجم قبضة الكف، ويؤتى ببلاطة تكفي لتغطية فوهة الحفرة، وبعود لا يتجاوز 15 سم ودودة أرض حية. يتم وضع البلاطة على الفوهة مائلة 45 درجة وتثبت بواسطة العود الذي تثبت الدودة بين طرفه السفلي وقاع الحفرة بحيث تبقى الدودة في حالة حركة، وعندما يشاهدها العصفور يندفع داخل الحفرة لأكلها، فما إن يشدها حتى يسقط العود وتطبق البلاطة على فوهة الحفرة، ويصبح العصفور في متناول اليد. وهذا النوع من الفخاخ يكثر استعماله في سورية ويطلقون عليه اسم «الطافوحة».

ولا تتوقف الحيل عند هذا الحد، بل تذهب عبقرية الصيادين إلى أبعد من ذلك، فيستخدمون قضبان الدبق في مواسم العابور وعصفور التين، وهنا لا حاجة إلى آلة التسجيل، بل إن الحضور الكثيف لهذا النوع من العصافير (الخوري والشماس، والكحل وبوبانة الطيون، والحمّايري والضُّرب وغيرها) هو الذي يغري باستعمال الدبق، والحصيلة في هذه الحال يقصد بها التلذذ بتناول هذه العصافير شيّا على الجمر.

وهناك من يبلل حبوب القمح أو غيره بمادة مخدرة ويُنثر على سطح البناء، فما إن تتناولها العصافير حتى تعجز عن الحركة فيتم التقاطها بسهولة. وذهبت العبقرية إلى أبعد من ذلك فاستخدم البعض «دواء الفئران» الشديد الالتصاق على فسحة معينة ونثر البذور حولها، فما إن يحط عصفور الدوري لالتقاط الحبوب حتى تلتصق رجلاه بالأرض ولا يعود يقوى على الطيران.

وعندما فرض منع الصيد في لبنان، منذ عدة سنوات، لجأ البعض إلى صنع بنادق محلية ذات قنوات مخصصة لاستعمال خرطوشة «الشالومون» المصنعة محليا، وذلك بطريقة تقطيع الشالومون عدة أجزاء بطول 3 إلى 4 سم ويوضع في أسفل كل جزء كبسولة ويحشى بالبارود والخردق ويستخدم في البندقية المحلية بحيث لا يتجاوز صوت الطلقة صوت طلقة «بندقية الخردق».

ولا ننسى بالطبع الجريمة المنظمة والمنتظمة التي يرتكبها بعض الصيادين في مواسم عبور طائر البجع سماء لبنان، إذ سرعان ما تواجه أسراب هذا الطائر بأسلحة الصيد على اختلاف أنواعها، وأحيانا تستعمل الرشاشات الحربية، وكل ذلك من أجل إسقاط أكبر عدد من هذه الطيور، وكأن الأمر يخضع لمباراة دولية في القتل الجماعي لها، خصوصا أنها لا تؤكل ولا تُستخدم للزينة.

وبالتأكيد لا ننسى «نقيفة» الصغار التي تحضر من الخشب الصلب (الزيتون، أو خوخ الدب، أو السنديان أو الزعرور) على شكل حرف «V» مع مقبض من القضيب نفسه، ويربط طرفاه بقطعتين من دولاب الهواء، وثم يربط الطرفان الآخران بقطعة جلدية مربعة تتسع لحصاة يتم توجيهها صوب العصافير، ونادرا ما تصيب أهدافها، إلا إذا كانت فترة التدريب متواصلة، وغالبا ما يستعملها الفتيان الذين يمتنع ذووهم عن إهدائهم أي سلاح صيد، إما لصغر سنهم وإما هربا من الصيد في حد ذاته على ما فيه من خطورة شخصية وتدمير لنسل أجمل كائنات الأرض.