بائعون يحولون أرصفة دمشق إلى حدائق وموزاييك من الزهور

يعرضون الثمار الموسمية التي تظهر في فصول معينة من العام

بائع موسمي في ساحة برج الروس بدمشق حول الرصيف إلى منظر أخضر جميل («الشرق الأوسط»)
TT

في ساحة باب توما، بالعاصمة السورية دمشق، على ضفاف نهر بردى، وقفت سائحة يابانية لتلتقط صورة لبائع الصبير أو الصبارة (التين الشوكي) الذي يفترش الرصيف بجانب حائط النهر.

وعندما سألها البائع مستفسرا ـ إيماء بيده ـ عن السبب، خاصة أنه ليس كبائع التمر الهندي والعرقسوس الذي يشتهر بلباسه الفولكلوري والأدوات الجميلة الشكل التي يحملها ـ وخاصة أبريق التمر الهندي ـ أجابته السائحة اليابانية بابتسامة ناعمة وإيماءة مع كلمات بالإنجليزية لم يفهمها البائع. فاضطررت وأنا أراقب المشهد للتدخل وترجمة ما قالته السائحة للبائع المنشرح.. إذ قالت السائحة اليابانية إنها أعجبت بشكل ثمرة الصبير الجميل، ولكن ما أعجبها أكثر المنظر.. عربته. ولقد وصفت العربة التي يبيع عليها الثمار بأنها «حديقة على رصيف»، ولذلك أرادت أن تحتفظ بصورة لهذا المنظر من خلال كاميرتها الرقمية، وتحملها معها عندما تعود لبلادها! يتميز هؤلاء الباعة، الذين يطلق عليهم «باعة الأرصفة الموسميون» عن غيرهم من باعة الأرصفة أصحاب البسطات بأن محافظة المدينة رخصت لهم مزاولة عمل مؤقت حسب المواسم، واشترطت عليهم أن يحولوا المكان إلى منظر جميل ونظيف. غير أن البعض منهم لعشقه للنباتات والزهور وأصص الورد جعل المكان أشبه بحديقة منزلية.

من هؤلاء بشير السالم، الذي كان محط إعجاب السائحة اليابانية، والذي تحدث إلى «الشرق الأوسط»عن اهتمامه بتزيين مكان بيعه للصبير، فقال «الصبير أو الصبارة من الثمار الصيفية المتأخرة التي تظهر في أغسطس (آب) وحتى نوفمبر (تشرين الثاني) ونحن نشتريها من تجار سوق الهال حيث تصلهم من مزارعين يقومون بزرعها في مناطق قريبة من دمشق، وكان أشهرها (الصبارة المزّاوية). ولكن بعد اندثار الأراضي الزراعية في منطقة المزّة وتحول المنطقة إلى ضاحية سكنية صار الصبير يزرع في الغوطة وفي منطقة الكسوة (جنوب دمشق) وفي مناطق أخرى كالساحل السوري».

وحسب السالم يتميز الصبير بأن له طريقة خاصة في تقشيره بالنظر لأشواكه السطحية، «ولذلك نحن نقشره ونبيعه في صحون أو بالقطعة الواحدة للعابرين من الناس، ولطبيعة الصبير الخاصة لا بد من أن يقدم باردا للزبون، ولذلك نضع عليه قطع الثلج. ومن هذا المنطلق لا يمكن بيع الصبير على عربات متجولة لحاجته لمستلزمات كثيرة لكي يصل إلى الزبون. وكان ضروريا بقاء بائعيه في منطقة ثابتة، ولذا اشتهرت أرصفة شارع أبو رمانة وساحة المالكي بوجودهم عليها منذ أكثر من نصف قرن، حتى إن إحدى الساحات القريبة من شارع أبو رمانة، وهي ساحة الروضة، باتت تعرف ومنذ سنوات باسم (ساحة الصبارة)».

ويتابع السالم شرحه فيقول: «بعد ذلك انتشر بائعة الصبير في أغلب الشوارع وبترخيص رسمي من محافظة دمشق، ولكن لفترة محددة وهي أشهر موسمه فقط». ويضيف بشير السالم، الذي يبيع الصبير منذ عشرين سنة، ويتنقل بين أكثر من ساحة ورصيف في كل سنة «معظم بائعي الصبير ولمنظره الأخضر يفضلون إحاطة عربات بيعه بالكثير من نباتات الزينة، وهذه تكون عادة في أصص كبيرة نشتريها من الأسواق أو نأتي بها من منازلنا. وأنا مثلا بالإضافة لنباتات الزينة أتيت بأشجار زينة سيّجت بها موقع البيع مع عدد من السجادات الصغيرة ذات المناظر الطبيعية.. والبعض يزين الموقع ببسط تراثية كي يضفي على المكان خصوصية. ولكن الأهم من كل ذلك وجود نباتات الزينة بكثرة لتتناسب مع ما نبيعه، ووجود الماء في أوعية كبيرة مع الثلج بشكل دائم، ولذلك يعرف مباشرة الشخص الذي يشاهدنا، ومن بعيد، أن هنا مكانا لبيع الصبير مع أننا ننادي عليه وبعبارات متداولة وطريفة وموسيقية كما يفعل معظم بائعي الخضار والفاكهة في دمشق لجذب الانتباه، ومن هذه العبارات «يا صبارة باردة وبتبلّ القلب.. وطيبة يا صبارة وع الندى أكلها ع الريق.. ومزاوية الصبارة يا حلوة.. وأنا بياع الطيب يا طيب!».

والطريف هنا أيضا أن بعض بائعي صبير، خاصة ممن يوجدون على أرصفة واسعة أو في ساحة كبيرة عمل، دأبوا على وضع مقاعد بلاستيكية وحتى طاولات.. «بحيث يتحول المكان إلى أشبه ما يكون بمقهى شعبي بسيط على الرصيف متخصص في بيع الصبير فقط، ولا يقدم بالطبع أي مشروبات باردة أو ساخنة» كما يقول أحد هؤلاء الباعة، الذي عرفنا على نفسه بـ«أبو رامز» الدوماني.. وهو يقول «لقد وجد هؤلاء أن المكان واسع ومعظم زبائن الصبير هم من المتسوقين والمتنزهين في المساء والليل، فوضعوا الكراسي والطاولات في الليل فقط ليجلس عليها الزبون ويأكل الصبير البارد.. وقد تكون محطة راحة له بعد فترة من السير في الأسواق. ولذلك بدأت تجذب هذه المقاهي البسيطة، والتي أطلق عليها مقاهي الصبارة، الكثير من الناس للجلوس والاستمتاع بمنظر موقع بيع الصبارة المزين بكل نباتات الزينة وبالمياه وبمنظر الشارع وبتذوق الصبارة الباردة؟!..

بائعون موسميون آخرون لا يقلون شهرة عن باعة الصبير، ويظهرون في الفترة نفسها تقريبا، هم باعة الفستق الحلبي الأخضر.. وهؤلاء يشاهدهم زائر دمشق، وقد وضعوا ثمار الفستق في قفف ـ أو سلال ـ خاصة كبيرة الحجم، وحولوا المكان إلى منظر جميل. والأماكن المفضلة لمعظم هؤلاء منطقة الصالحية وأرصفة حي القصاع وشارع بغداد والحمرا، وفي ساحات مثل المرجة وباب مصلى وغيرها.

هؤلاء الباعة، الذين يسمعهم العابر وهم ينادون على بضاعتهم بـ«العاشوري»، الذي هو أجود أنواع الفستق الحلبي، ويقومون بتقشير حبات منه أمام العابرين ليؤكدوا لهم جودة ما يعرضونه وأنه سهل التقشير والفتح لتناول اللب، وأبرز ما يميزهم عن باعة الصبير أن منتجاتهم يأخذها الزبون معه إلى منزله.

ولكن حتى هؤلاء يحرصون على إضفاء شيء من التراثيات والفولكور على ما يبيعونه. ويبرّر أحد هؤلاء الباعة واسمه حاتم السلقيني ذلك، بقوله «إن الفستق الحلبي الأخضر، الذي يبدأ موسمه أواخر الصيف ويستمر حتى الخريف، نأتي به ومعه من مناطق إنتاجه في ريف حلب وحماه وإدلب. ولذلك، وحتى نستفيد من مجيئنا إلى دمشق ماديا، خاصة أننا بائعون موسميون ولدينا نفقات كثيرة في دمشق، فإننا نحمل معنا بعض المواد الغذائية التراثية الريفية التي تشتهر بها أريافنا كصناعة ريفية غذائية ويرغب في شرائها الدمشقيون وزوار دمشق.. ومنها مثلا التين المجفف بمختلف أشكاله والزبيب (العنب المجفف). وكذلك، نبيع الفستق الحلبي البلدي المحمص والمكسرات، ونحرص أيضا على أن نحول المكان إلى منظر طبيعي جميل فنستخدم مثلا أصص النباتات بجانب السلال القصبية التي نأتي بها من قرانا ونضع الشمسيات الملونة التي تعطي الرصيف منظرا جميلا».