الشوف تبني للحاضر والمستقبل.. بفكر التراث والطبيعة في لبنان

بلدات القضاء وقراه تتميز بالعمارة التقليدية والبيئة الصحية

الفناء الداخلي لقصر بيت الدين («الشرق الأوسط»)
TT

بعيدا عن ضوضاء المدن، والأبنية الشاهقة المتلاصقة، فإن ثمة منطقة لبنانية تبني الحاضر بخريطة الماضي، وترى المستقبل من نافذة التراث اللبناني. جدران منازلها حجر صخري، وسطوحها الهرمية قرميد أحمر، وأما محيطها فطبيعة خضراء، أشجارها من الأرز والصنوبر.. و«صخبها» من الطيور وخرير الينابيع.. لننطلق نحوها.

فقط مسافة 17 كلم إلى الجنوب من العاصمة اللبنانية بيروت تفصل عن بلدة الدامور الساحلية. ومنها تصعد بك الطريق إلى منطقة قضاء الشوف الجبلية المستلقية في أحضان جبل الباروك المرتفع أكثر من 1250 مترا عن سطح البحر. وفي الطريق تتسابق لاستقبالك قرى وبلدات اشتهرت لبنانيا بحفاظها على البيئة، ورويدا رويدا تلاحظ خضوع «عبثية المدن» لحكم الطبيعة وقوانينها.

فالتلوث ينسحب لصالح الهواء النقي، والازدحام المروري لا يجد أرضية ملائمة، والأبنية الشاهقة تتحول بيوتا صغيرة ومتناغمة مع ما حولها بصورة مريحة للنظر. لكن، ولئن كان هذا حال القرى اللبنانية عامة، يبقى أن للشوف ميزته. ففيه قرار من الفاعلين بوجوب الحفاظ على التراث دونما أي انبهار بالحضارة الغربية وأبنيتها، ومنه للعالم قصور وأبنية ذكرها التاريخ وكتب عنها، أبرزها على سبيل المثال لا الحصر: قصر آل جنبلاط التاريخي في بلدة المختارة، وقصور المعنيين (آل معن) في دير القمر، وقصر بيت الدين المعروف باسم «قصر الشعب» الذي يعتبر من أهم آثار بلدة بيت الدين ولبنان ككل، وهو صرح كبير يلفت الانتباه بجمال بنيانه، ولعله من أجمل نماذج الفن العربي في القرن التاسع عشر، ذلك أنه يشكل مزيجا رائعا ومتناسقا من بناء الحجر اللبناني في الخارج ومن الفن الزخرفي الدمشقي في الداخل.

ولقد شارك في بناء قصر بيت الدين أمهر البنائين اللبنانيين، ومنهم رستم ويوسف مجاعص من بلدة الشوير، وانضم إليهم عدد من المهندسين الأوروبيين والعمال المهرة القادمين والمستقدمين من دمشق لصنع الفسيفساء وصقل الرخام المستورد من فلورنسا في إيطاليا. واستغرق بناء هذا القصر بقاعاته الواسعة وأبراجه المربعة عشرات السنوات، بما في ذلك زخرفته وما أضيف إليه من تحسينات في البناء، وزينت القاعات بنقوش هندسية جميلة وزخارف ملونة كتبت عليها حكم وأمثال عربية قديمة. وقد اشتهر بحدائقه الجميلة وبساحة فسيحة تدعى «الميدان» كانت تقام فيها فيها حفلات الفروسية واستعراض الجيش.

واليوم قصر بيت الدين هو المقر الصيفي لرئاسة الجمهورية، كما يقام فيه سنويا مهرجان ثقافي هو «مهرجان بيت الدين» الذي يستقطب كبار الفنانين العالميين، ويقصده السياح والمغتربون الذين يرتبون جداول عطلهم وفق أجندة المهرجان.

ويميز أهل الشوف بين نمطين للبناء: أول مديني منفتح على التأثيرات الثقافية، الشرقية منها والغربية، وعمارته هي من نتاج البنّائين المتخصصين الذين كانوا يعملون لحساب البورجوازية التجارية والصناعية. والثاني قروي، محلي، ينعكس فيه أثر تقنية الموروث المعماري البسيط. أبنيته عملية، وهي من نتاج القرويين الذين يعيشون على إيقاع الأيام والفصول. في النمط الثاني المعتمد هنا، يعلو شأن الحجر الصخري «المقصوب» على «نظيره» الاسمنتي، وتتكلل الأبنية بقناطر وشرفات تتآلف مع جمال الطبيعة وعناصرها. وبقدر ما كان هذا البناء متواضعا ويلبي ببساطته متطلبات العيش في أيام الأجداد، فهو يشكل هذه الأيام قيمة تراثية كبيرة وامتدادا إلى المستقبل، وبالتالي فإنه ينقل من جيل إلى جيل لوحة مشهد عام يحاكي الزمان ويقلب صفحاته ككنز بيئي وتراثي، يأخذ مجده منذ القرن الرابع عشر، ويحمل في ثناياه ذاكرة شعب وأرض.

الخريطة الهندسية للبيوت التراثية هذه تلحظ التنقل السهل الممتنع بين الغرف، وتحسن توزيع بعض الفضاءات: الحوش، والرواق أو الإيوان (الليوان)، وتعتمد في أحيان كثيرة فكرة الطراز المعماري المعروف بـ«البيت ذو البهو المركزي»، وهو طراز مديني بامتياز انتشر في القرى.

جدران المنزل الداخلية تتشابه وتلك الخارجية، فيظهر الحجر «المقصوب» جليا، ولا تجد مثلا جدرانا ملساء مسطحة، بل تعرّجات يفرضها النحت والحجارة، وهو طابع قديم يعود إلى ما بين 300 و400 سنة.

مهندسو المنطقة يجمعون على ربط «التنظيم البلدي غير النموذجي بنفسية المواطنين. «فقبل كل شيء، العمارة فن وذوق وجمال وخلق لنمط حياة إنسان»، يقولون، ولهذا بادروا بدعم من النائب اللبناني وليد جنبلاط، وبالتعاون مع البلديات إلى إحياء النموذج التقليدي اللبناني القديم وتطبيقه على الأبنية المراد إنشاؤها على أن تكون ملامحها شرقية تراثية إلى حد ما، لوقف الهجمة العمرانية العشوائية الحديثة من جهة، والإبقاء على الانسجام والمحيط البيئي، ذلك أن البناء اللبناني القديم يشكل بحد ذاته الفن والراحة والصحة والبيئة السليمة لحياة الإنسان».

الحجر الصخري الطبيعي أساس عدة العمل لمهندسي الشوف، وكذلك القرميد الأحمر، علما بأن الأخير تبع الأول تاريخيا، بمعنى أن بعض الأبنية الموغلة في التاريخ لم تعتمد القرميد كأساس. والأمثلة كثيرة، كقصر فخر الدين، وقصر بيت الدين، وقصور المعنيين، وجامع دير القمر، وقصر الأمير أمين في بيت الدين، ومطرانية بيت الدين، وخلوة دير القمر، قصر تقي الدين في بعقلين الخ.. فالحجر كان الأساس، ثم أتى القرميد ليشكل الاثنان وحدة متجانسة، وهذا ما يجري تطبيقه اليوم في منطقة.. أو قضاء الشوف.

يقول المهندسون، إن «البيت اللبناني يفي بمتطلبات الحداثة، والتراث جزء أساسي من ثروتنا الوطنية، والحفاظ عليه ليس مناقضا للنهوض الاقتصادي أو الحداثة، إنما هو شرط مسبق له ولها، وهم يلفتون إلى أن سعر المتر المربع لأي عقار سيتحسن إذا كان بجانب موقع أثري أو محيط جميل، فلا تناقض على الإطلاق بين ما هو اقتصادي وبين ما هو أثري، بل على العكس سيكون هناك تكامل وتكافل، لأن هذا البلد لن يتمكن من إرضاء أهله المقيمين فيه ولا من استقدام السياح إليه إذا لم يعط المثل في الاهتمام بتراثه وبالحفاظ على طبيعته وعلى البيئة فيه».

.. وأخيرا، لا بناء جميلا بلا محيط ملائم، وبالتالي يحرص أبناء الشوف، ومهندسوه على غرس أنواع معينة من الشتول والأشجار المناسبة، فإلى القرميد والحجر الطبيعي التراثي، يحضر الأرز، رمز الصمود ومحور العلم اللبناني.. فتكتمل به ومعه جمالية المكان، ويتوقف عند جذوعه الجرف الغربي لهندسة معمارية لما تجد لها بعد مكانا في الشوف وقراه.