مشروع في دمشق لإحياء مهنة «شيخ الكار»

زعماء لم ينصبهم أحد وشيوخ فرضوا أنفسهم بجدارة

مازال بعض أصحاب المهن الدمشقيين يصرون على أنهم شيوخ كار المهنة («الشرق الاوسط»)
TT

إذا جئت العاصمة السورية دمشق زائرا، وتجولت في أسواقها وشوارعها الرئيسية، فلا بد أن تلفت انتباهك لافتات المحلات التي تشير إلى اختصاص صاحب هذا المحل أو ذاك بنوع بضاعته التي يبيعها. ولكن من ناحية ثانية، ستستوقفك كلمات مفخّمة خالية تماما من التواضع وضعها البعض من هؤلاء في لافتات محلاتهم التي قد تتخصص في الفلافل أو العصير أو المفروشات، أو حتى الحلاقة، ليميزوا أنفسهم عن زملائهم. هؤلاء التجار وأهل الحرف نصّبوا أنفسهم «ملوكا» و«سلاطين» و«أمراء» في مهنهم من باب الدعاية والشهرة ولا شيء غير ذلك، فهم ليسوا بالضرورة الأفضل في مجالاتهم. والناس ـ كما يؤكد العديد من المتسوقين الذين التقيناهم في سوق الشعلان الدمشقي ـ يعرفون كيف يميزون ما بين البائع والحرفي الجيد من الرديء ولن تغشهم الدعاية والكلمات والعبارات الفخمة التي يكتبونها.

باسم جمالي، الذي كان يتسوق في الشعلان، قال لـ«الشرق الأوسط»: «لم يعد أحد من الناس تغشه مثل هذه العبارات، فالكل بات يميز بين البضاعة الجيدة والرديئة، وحتى السائح والزائر لدمشق لأيام قليلة سيسأل عن البائعين الجيدين قبل أن يشتري ما يريد، ولكن هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم زعماء على مهنهم لن يستفيدوا شيئا، وانظر مثلا كيف يتجمع الناس أمام بائع عصير بكثافة في سوق دمشقي لتشتري من عنده بينما زبائن زملائه المجاورين قليلون جدا. إن الناس هنا يعرفون مَن الأفضل في المجال الذي يتخصص فيه». ولكن بعكس رأي جمالي، فإن بعض الباعة الذين وضعوا هذه الكلمات والعبارة على لافتات محلاتهم يزعمون أنها جاءت من اعتراف الكثير من الزبائن بجودة ما يقدمونه من منتج أو خدمات. ومن هؤلاء بائع التمر الهندي القديم أبو بشير حلتة (77 سنة) الذي تقاعد من عمله قبل عشر سنوات. يقول أبو بشير لـ«الشرق الأوسط» إن الناس في سوق الحميدية وساحة المرجة حيث كان يتوقف ليبيع شراب التمر الهندي كانوا ينادونه بـ«الملك» لمذاق شرابه اللذيذ، لا سيما وأنه كانت له بصمته الخاصة على هذا الشراب. ومن ثم طالبه زبائنه بوضع الكلمة على عدة التمر الهندي التي يحملها على ظهره بائعا متجولا.

ومن ناحية أخرى، من العبارات التي تُسمع كثيرا في دمشق وغيرها من المدن السورية والعربية إذا أردت السؤال عن حرفي جيد أن فلانا «معلم» في التنجيد أو أعمال البناء أو غيرهما. إلا أن هذه «المعلمية» لم يحصل عليها هذا الحرفي أو ذاك إلا بعد أن اختبره العديد من الزبائن.

وفي القرون الماضية، ومنذ انتشرت الحرف الدمشقية في أسواقها المميزة ظهرت تسمية «شيخ الكار». وهذه عبارة تطلق على أقدم وأهم حرفي في مهنته. فقد كان «شيخ الكار» يُعتبر مرجعا لزملائه ولتلامذته في المهن، يحل مشكلاتهم ويساعدهم ويدافع عن حقوقهم ويتابع قضاياهم لدى الجهات الحكومية، ولذلك نصّبوه «شيخا» على مهنتهم أو «كارهم». وهكذا ظهر «شيخ كار» لكل من العطارين والحدادين والنجارين والحلاقين والخياطين وغيرها من الحرف التقليدية المعروفة. وعندما كان يتوفى «شيخ الكار» أو يتخلى عن اللقب بسبب مرض أو أسباب أخرى كان يحل محله تلقائيا من يأتي بعده في قِدمه بمهنته ومكانته في أوساط محترفيها.

كذلك برزت في الماضي تسمية «شاهبندر التجار» على أقدم التجار الذي كان يُعتبر أيضا مرجعا لزملائه في كل شيء. وإذا كانت التسمية والصفة الأخيرة قد انتهت قبل أكثر من نصف قرن من حياة المجتمع الدمشقي بعد تأسيس غرف التجارة والصناعة، التي تنتخب رؤساءها وأعضاء مجالس إدارتها، وبذا حل التجار والصناعيون المنتخَبون محل «الشاهبندر» أو «الشهبندر» محل الشهبندر، فإن تسمية «شيخ الكار» ظلت متداولة حتى نهاية القرن العشرين المنصرم وحتى اليوم، ولو بشكل محدود، وبخاصة في الأسواق الدمشقية القديمة.

ولكن، حاليا يعمل اتحاد الحرفيين في دمشق ـ وهو المشرف حاليا على كل أصحاب المهن في دمشق من خلال جمعيات متخصصة تضم كلا منها أصحاب المهنة الواحدة ـ على إعادة إحياء هذه التسمية، ومنحها لمن يستحقها فعلا في مهنهم بخاصة، وذلك بعدما حاول بعض المتطفلين الذين لا يتميزون بالعراقة والقِدم في الحرف والمهن الدمشقية احتكار هذه التسمية لهم.

وحول مشروع إحياء مفهوم «شيخ الكار»، قال نذير الكردي رئيس اتحاد الجمعيات الحرفية في دمشق لـ«الشرق الأوسط»: «هناك بعض المهن التي سنُعيد إليها هذه التسمية التي تتوافق معها مثل المطاعم والنسيج ومواد البناء». وكان (شيخ الكار) هو المرجع لزملائه وحلاّل خلافاتهم مع أرباب العمل أو مع زبائنهم، وكان صاحب المشورة في أمور كثيرة ولا سيما في الأمور الفنية لمهنتهم. وكان من المعروف أيضا أن على أي عامل حرفي يريد العمل في منطقة ما، متخليا عن المنطقة التي كان يعمل فيها سابقا، الرجوع إلى (شيخ كار) المهنة ليسأل عن أسباب تركه المنطقة، ويسأل عن أخلاقه وتعامله مع الناس. وستعود هذه التسمية ونحييها ومن المكن اعتبار رئيس الجمعية الحرفية أو أعضاء مجلس الجمعية (شيخ الكار) لأن معظمهم من أقدم الحرفيين في تخصصهم، فمثلا، رئيس جمعية المطاعم يمارس مهنته منذ أربعين سنة».

وفي مجال إحياء مفهوم «شيخ الكار» كانت جمعية حرفيي المطاعم والفنادق في ريف دمشق السباقة في هذا المجال، إذ قررت قبل بضعة أشهر، من خلال مؤتمرها السنوي الذي عقدته في فبراير (شباط) من العام الماضي إطلاق شهادة «شيخ الكار» التي ستُمنح سنويا لأقدم العاملين في هذه المهنة، والذين تميزوا فيها وطوروها. كما قررت منح شهادة «رائد» في مجال الحرفة لأوائل من افتتحوا منشآت، من مطاعم وفنادق، في ريف دمشق، أو بنوع الخدمة التي يقدمونها.