القرية التراثية الشركسية نموذج لمجتمع عمّان في منتصف القرن التاسع عشر

الضيف يشعل السراج لإشعار الآخرين بوجوده

صورة للمنزل.. مع ملامح من التراث الشركسي («الشرق الأوسط»)
TT

يحاول القائمون على القرية التراثية الشركسية، من خلال احتفالات العاصمة الأردنية عمّان بالذكرى المئوية لتأسيس أول مجلس محلي فيها، أن يقدموا صورة قريبة من الواقع الذي عاشته العشائر الشركسية منذ قدومها إلى الأردن بعدما أقدمت السلطات العثمانية، آنذاك، على ترحيل نحو مليون ونصف مليون شركسي من بلاد القوقاز (القفقاس) في أعقاب خسارة الحرب مع روسيا القيصرية. وبغض النظر عن أسباب ودوافع عملية نقل الشركس إلى البلاد العربية، واستيطان معظمهم في بلاد الشام (سورية ولبنان والأردن وفلسطين) بالإضافة إلى مصر، فإن طلائع هذه العشائر وصلت في عام 1864 إلى عمّان، واستوطنت بجانب المدرج الروماني حيث كانت هناك عين ماء. وقد سكن الشركس المغارات التي كانت موجودة بجانب المدرج التي تمكن أبناء عشيرة الشابسوغ من بناء المساكن باللّبن الطيني. وعن هذا الجانب يقول إسحق مولا، رئيس الجمعية الخيرية الشركسية في الأردن: «لقد حاولنا تقديم نموذج للبناء الشركسي في عمّان في تلك المرحلة، ولهذا أخذت مجموعة من أعضاء نادي الجيل على عاتقها بناء المنزل الشركسي الذي يصور طبيعة الحياة التي عاشها الأجداد». والواقع، أن من يزور مبنى الجمعية الشركسية ونادي الجيل يلاحظ طراز الفن المعماري المميّز للمنزل الشركسي، الذي بني في ساحة النادي وسط بنايات سكنية شيّدت من الحجر الأبيض، كما هو الآن في مناطق عمّان الغربية، ويعيش للحظات حياة القرية التراثية بكل تفاصيلها ومكوناتها. فعندما تصل إلى المنزل تواجه البوابة العالية التي يدخل منها الجمل والخيل والعربة، ومن خلاله هناك باب صغير للضيف الزائر. بسام زخه، الذي تولى التصميم والإشراف على البناء، بمساعدة أعضاء النادي، قال لـ«الشرق الأوسط» عندما التقيناه: «لقد استغرق العمل في تشييد هذا المنزل نحو 40 يوماً، وما مجموعه 150 ساعة عمل، لأننا حاولنا قدر المستطاع إحضار المواد الأوّلية من الطين والقصل (أي التِّبن) والقصب والأدوات التراثية الأخرى من «الدّوامر» و«الدسر». وكان الشباب والفتيات من أعضاء النادي يعملون على تطيين الجدران بأيديهم، وكان جو العمل أشبه بخلية النحل، ولأنه عمل تطوعي كنا في أيام شهر رمضان نعمل في الليل من الساعة التاسعة مساء وحتى السحور.. وكنا نشعر بالمتعة ونحن ننجز هذا المنزل الذي يصوّر حياة الأجداد، والمكون من الطين الأحمر المخلوط من القصل كي يتماسك مع بعضه البعض». ويشرح بسام، الذي يعمل مدرب طيارين، أن «مكونات المنزل الشركسي قريبة من حيث التصميم من البيت الإسلامي، تكون النوافذ داخلية ولا تجد نوافذ تطل على الخارج، وعندما تدخل فناء المنزل من البوابة الرئيسية تجد غرفة للضيوف تكون منفصلة عن بقية الغرف». وأورد بسام زخه في سياق شرحه عادة شركسية بأن «الضيف الزائر عندما يدخل لا يطرق البوابة الرئيسية وإنما يدخل مباشرة إلى غرفة الضيوف، وهناك سراج على مدخل الغرفة يقوم بإشعاله كي يعطي إشارة إلى أصحاب البيت إلى أن هناك ضيفاً في الغرفة.. ليحضروا من أجل القيام بواجب الضيافة». من ناحية أخرى، يجد الزائر في حياة الشركسي صوراً من حياة المزارعين، فهناك مكان لزريبة الأغنام (الياخور) وكذلك الطابون (المخبز) والمطبخ وأدواته وأوانيه النحاسية، إضافة إلى بئر لجمع مياه الأمطار. أما غرف معيشة العائلة الشركسية فتكون عادة مرتفعة بأكثر من نصف متر عن مستوى فناء المنزل، وتكون مخصصة للشباب وللفتيات، وعادة يكون فيها أبواب تفتح على بعضها البعض للتواصل في ما بينها خلال فصل الشتاء حيث البرد القارس وقد سقفت بالقصب المحمول على الدّسر الخشبية. ولقد عُرض في المنزل أيضاً نموذج لعربات الخيل التي كانت تستخدم لنقل الأشياء والمحاصيل والأعلاف وغيرها، وهي عادة ما تصنع من الخشب الصلب المعالج الذي يتحمل الضغط على الأرض، ويقال إن العربة المعروضة هي أقدم عربة أدخلت إلى عمان بعد العربات الرومانية. كذلك عُرضت داخل الغرف الملابس الشركسية التراثية، التي أصبحت في هذه الأيام نادرة وباهظة التكاليف إذ يصل سعرها إلى نحو ألف دولار للفستان الشركسي الذي عادة ما يصنع يدوياً ويحاك بالإبرة وخيوط الحرير، ثم هناك الطربوش الشركسي ذو الشكل المميّز المعروف بـ«القلبق»، وكذلك هناك «التساقو» أو «الساقو» (أي المعطف القصير) و«باقوة» وغيرها من الملابس التراثية. ومن الأدوات الأخرى اللافتة «القامة / القاما» أو السيف الشركسي، والعديد الأدوات والأواني النحاسية والأدوات الزراعية كالمحراث والشاعوب ورحى طحن الحبوب وغيرها من الأدوات التي يستعملها المزارع في فلاحة الأرض. والمعروف تاريخياً، أنه عندما حضر الملك عبد الله الأول، مؤسس المملكة الأردنية الهاشمية، إلى شرق الأردن اختار عمّان لتكون عاصمة دولته الوليدة واستعان بالشركس والعشائر الأردنية المقيمة بجوار عمّان لتثبيت أركان الدولة قبل أن تبدأ الهجرات المتلاحقة للفلسطينيين بفعل نكبة 1948. واليوم يلحظ زائر القصور الملكية في منطقة رغدان، القريبة من المدرج الروماني بوسط عمّان، يرى الحرّاس من أبناء الشركس الذين يرتدون الزي الشركسي على مدخل مكتب الملك. وهذا الزي مكوّن من «القلبق» و«التساقو» ـ أو «الساقو» ـ (المعطف القصير) والحذاء الطويل العنق (يشبه الجزمة) الذي يعطي انطباعاً حتى الآن بأن الشركس هم من أوائل من سكنوا عمّان، مسلحين بـ«القاما» (السيف). وللعلم، فمن العشائر الشركسية القرويون والمدنيون، إذ عندما حضرت طلائع فلاحي الشركس من عشيرة الشابسوغ إلى عمّان لحق بهم من كان يعيش المدن، ومن هذه العشائر «القبرطاي» التي استوطنت بجانب منطقة رأس العين وحي المهاجرين بوسط عمّان. ثم بدأت تتوالى هذه العشائر وتسكن مناطق السخنة والزرقاء والرصيفة وصويلح وجرش بالنظر إلى وفرة الماء والأراضي الزراعية الخصبة في هذه المناطق. ويقول حسن خورما، عضو المجلس العشائري الشركسي، عن البناء إنه «جاء بمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيس بلدية عمّان، وهو يمثّل نمط البناء الشركسي القديم الذي اتخذه الشركس أوائل قدومهم إلى الأردن في أواخر سبعينات القرن التاسع عشر، مجسداً مرحلة تاريخية مهمة في تاريخ المدينة التي بدأت كقرية صغيرة». ويضيف «لقد حرصنا في التصميم على إبراز أهم المعدات التراثية الخشبية التي استخدمها الشركس في حياتهم اليومية، ولا سيما، الزراعة والحرف التقليدية، وهذا بجانب كل ما يتصل بملامح الهوية الثقافية الشركسية».

وعن الجمعية الخيرية الشركسية في الأردن، يقول إسحق مولا «إن الجمعية التي تعد من أقدم الجمعيات الخيرية في الأردن أسّست بعد الجمعية الشركسية الموجودة في مصر في عام 1932، وهي تنشط في مساعدة الأسر المحتاجة وكفالة الأيتام وتدريس الطلاب وإرسالهم في بعثات إلى الخارج»، غير أن مولا يعترف بأن الجمعية «فشلت في تدريس اللغة الشركسية في مدارسها الخاصة بها، وذلك لصعوبة المنهاج وتنوع اللهجات في هذه اللغة». وتابع أن الجمعية «تحاول راهناً إيجاد منهج سهل ومقبول للجميع يصار إلى تدريسه للشباب والراغبين في تعلم اللغة الشركسية». وختم مولا حديثه لـ«الشرق الأوسط» بالقول إن المنزل الشركسي المقام حالياً «لن يبقى في هذا المكان بل سينقل بكل معالمه إلى متحف الأردن الذي يشيد حالياً في رأس العين، بوسط عمان، حيث سيتحدث عن فترة ومرحلة من تاريخ عمان الممزوج ببصمات أخرى سواء للعشائر الأردنية التي كانت تسكن جوار قرية عمّان وأصبحت جزءا من العاصمة عندما توسعت وأصبحت مساحتها تصل إلى أكثر من ألف كيلومتر، أو للهجرات التي استوعبتها عمّان على مر السنين من الفلسطينيين وغيرهم من أبناء الشام والحجاز والعراق وغيرهم».