«الحميادو».. قصة وأد الحروف العربية في غرب البلقان

محمد هوكوفيتش: أكثر من 50 سنة أمضيتها في الدفاع عن كنوزها

البلقانيون كانوا يدرسون اللغات بما فيها الألمانية بالحروف العربية
TT

ليست تركيا وحدها الدولة التي «نكبت» في تراثها المكتوب بالحروف العربية، وليست وحدها من حيل بينها وبين كنوز القرون في مختلف العلوم والفنون، بل ابتليت شعوب البلقان، كلها، بهذه الكارثة الثقافية، وإن اختلفت نسبة الخسارة من شعب لآخر ومن دولة إلى دولة أخرى.

مع هذا يرى كثيرون أن الثقافة الإسلامية لا تزال تقاوم، بحروفها العربية، التي استبعدت عمدا من أبجديات اللغات البلقانية.. وتحديدا اللغات التركية والبوسنية والألبانية، التي كانت إلى وقت قريب نسبيا تكتب بالحروف العربية، أو ما يعرف بـ«الحميادو» أو«العربسكا». وكانت الغاية الواضحة هي قطع صلات هذه الشعوب البلقانية وهدم جسور تواصلها مع المنطقة العربية، وتجفيف ينابيع ثقافتها الإسلامية. وإبعادها عن القرآن الكريم الذي لم تكن في حاجة إلى ترجمته حتى القرن التاسع عشر الميلادي.

الدكتور محمد هوكوفيتش (87 سنة) هو أحد الشهود الإيجابيين على «المذبحة الثقافية» التي تعرض لها الإنتاج الثقافي لـ«الحميادو» على مدى 4 قرون. وأحد أبناء آخر جيل درس بـ«الحميادو» في دار القضاة (سابقا) في سراييفو إبان حقبة المملكة اليوغوسلافية بين 1918 و1941. ولقد ألغيت ثانوية القضاة في حقبة العهد الشيوعي (1945 ـ 1990) وأغلقت جميع المدارس الإسلامية تقريبا. وهكذا اضطر هوكوفيتش للانتقال إلى زغرب، عاصمة كرواتيا، لدراسة الفلسفة. وعام 1952م حصل على الإجازة الجامعية في الآداب ثم عمل أستاذا في المعاهد الثانوية، وألقى عدة محاضرات في المعاهد العليا. غير أنه لفرط اهتمامه بالإنتاج الأدبي والفكري المكتوب بالحروف العربية أعد رسالته للدكتوراه عن لغة «الحميادو». الدكتور هوكوفيتش، الذي التقته «الشرق الأوسط»، لتبحث معه في موضوع «الحميادو»، لا يزال على الرغم من تقدمه في السن (من مواليد 1922) لا يستخدم نظارة.. حتى وهو يكتب ويقرأ. وخلال اللقاء قال لنا: «كان الوضع ـ في الحقبة الشيوعية ـ صعبا للغاية.. فقد تعرض المسلمون للسجن، وصودرت الأوقاف الإسلامية، وتعرضوا للحملات التنصيرية والتشكيك في معتقداتهم، لقطع جذورهم الثقافية، وهذه طبيعة كل دولة بوليسية. لقد كان المسلمون تحت الرقابة الدائمة، وكانت أي كلمة تصدر عن عالم أو مثقف أو شاب ملتزم تفسر على أنها موقف ضد النظام الحاكم آنذاك، وبالتالي، مصدر خطر وتهديد للأمن والاستقرار والسلم، وشكل من أشكال الشغب ومناهضة التقدم والحداثة. كان هناك إرهاب أمني وإعلامي وسياسي، يبرر نفسه بأنه ضد الإرهاب في عملية إسقاط بربرية مقيتة». وعن نتائج عزل المسلمين في البلقان عن إنتاجهم الثقافي بلغة «الحميادو» أو «العربسكا»، قال: «كان ذلك بمثابة إسقاط للذاكرة ومسحها تماما. فإغراق إنتاج أربعة قرون في بحر النسيان وكأن شيئا لم يكن ليس أمرا هامشيا، بل إبادة للذاكرة وللإنسان، وعملية قرصنة عضوية لتاريخه وشخصيته. وعندما يصار إلى قطع المسلمين عن تراث ثقافي عمره 400 سنة له علاقة بتراث يزيد الآن على 1400 سنة، هو التراث الإسلامي، يتبين لنا حجم الجريمة التي ارتكبت بحقهم. لقد كانت الطبقة المثقفة تكتب بلغة «الحميادو» التي كانت تمثل التميز الثقافي في عالم متعدد الثقافات. وعندما كان أبناؤها يذهبون إلى فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا لدراسة الفرنسية والألمانية والإنجليزية كانت تكتب لهم هذه اللغات بالحروف العربية في بداية الدراسة ليتقنوها بعد ذلك بحروفها اللاتينية. وقد وثقت ذلك في كتبي التي تحدثت فيها عن ثقافة الحميادو العريقة».

وعن سر بقاء الحروف العربية في البلقان، على الرغم من حروب الإبادة التي تعرضت لها منذ عهد الإمبراطورية النمساوية المجرية (1878 ـ 1914)، والدولة الصربية الكرواتية السلوفينية، التي أصبحت بعد ذلك «المملكة اليوغوسلافية» (1918 ـ 1941)، قال: «الإسلام، وتحديدا القرآن، هو الذي حفظ هذه الثقافة. فبعد القطع مع الإنتاج الثقافي لمدة أربعة قرون ظلت اللغة العربية والحروف العربية تدرس في الخلاوي القرآنية، وفي البيوت أحيانا. فكل شيء كان مكتوبا بالحروف العربية، ولم يكن سهلا إنهاء ذلك بين عشية أو ضحاها. وحتى القرن التاسع عشر الميلادي كانت هناك آلاف المجلدات مكتوبة بالحروف العربية، وثمة مجلات صدرت بالحروف العربية، من بينها مجلة (الطريق) التي لدي منها عدة أعداد أحدها صدر عام 1908، ثم هناك مجلة (المعلم) وأحتفظ بأعداد منها أحدها صدر عام 1912، ومجلة (المصباح) ولدي منها أعداد بعضها صادر عام 1913. هذه المجلات كانت رائدة في المجالات الدينية والأدبية والسياسية، وكانت كلما قامت السلطات بحظر عنوان يصدر عنوان آخر».

أما كيف تم القضاء على اللغة العربية تدريجيا، فأشار إلى أن «ما يقوم به الكيان الصهيوني في فلسطين من محاولات لطمس معالم الوجود العربي، ومنه الثقافي، مارسته من قبل سلطات الاحتلال منذ الحقبة النمساوية المجرية وحتى العهد الشيوعي.. فعملت على طمس معالم ثقافة (الحميادو).. وخذ مثلا اللوحات على الطرقات التي تحدد المسافات والاتجاهات الخاصة بالمدن والمناطق، فقد أضيفت إليها الأسماء والأرقام باللغة اللاتينية ثم ألغيت الأسماء والأرقام بالحروف العربية، وبقيت تلك المكتوبة باللاتينية فقط. وعندما تمكن المسلمون من كسب معركة الاحتفاظ بالحروف العربية لكتابة لغتهم في مجلس الشعوب في المنطقة رفض مجلس الأعيان النمساوي آنذاك ـ تحديدا عام 1913 ـ الاعتراف بحق المسلمين، وصادر ذلك الحق الذي لا يزال مصادرا إلى اليوم. وعلى الرغم من أن مخارج الحروف في اللغة العربية تختلف عنها في لغات البلقان فإن شعوب البلقان استنبطت، كحال متكلمي لغة الأوردو، حروفا جديدة، أو قل أضافوا بعض النقاط والحركات على الحروف مثل ثلاث نقاط تحت الباء والجيم وفوق القاف وهكذا، ولقد عرفت (الحميادو) في الأندلس، حيث عمرت ثمانية قرون وبها كتبت أهم الكتب وأفضلها». من جهة ثانية، يبدو غريبا صمود اللغة العربية في البلقان بعد حظرها في الدوائر الرسمية أكثر مما استمرت في تركيا ذاتها. وحول هذه النقطة يقول محمد هوكوفيتش: «القطع مع الحروف العربية لم يكن نهائيا وعلى كل المستويات، بل ظلت الكتب تطبع، والرسائل تتبادل بلغة (الحميادو). وكان عام 1945 العام الذي شهد طبع آخر كتاب يطبع بالحروف العربية. ففي ذلك التاريخ قضى الشيوعيون نهائيا على الحرف العربي في المطابع وقلصوا حضوره إلى أبعد الحدود مع أن الرسائل المتبادلة بين الناس بهذه اللغة استمرت حتى سبعينات القرن الماضي. وكما أن الإبادة البيولوجية للبوشناق، وللمسلمين عموما، اختلفت بين حقبة وأخرى، كذلك كان حال الإبادة الثقافية للغة (الحميادو) التي بلغت ذروتها عام 1945 كما عرفت الإبادة الجسدية أوجها عام 1992». ويذكر الدكتور هوكوفيتش أن لديه رسالة مكتوبة بلغة «الحميادو» مرسلة «من والد إلى ولده عام 1973، على الرغم من أن السلطات الشيوعية منعت المدارس الإسلامية وحولت مبانيها للاستخدام المدني، وأغلقت مدرسة القضاة والمدارس الإسلامية لأنها تدرس اللغة بالحروف العربية بدل اللاتينية والبيزنطية. ومن الغريب أن النساء كن أكثر محافظة على اللغة العربية والحروف العربية (الحميادو) من الرجال وكن يعلمنها لأبنائهن في البيوت، ولكن مع مرور الزمن ضعفت تلك الحلقات وكادت تتلاشى مع اشتداد القبضة الشيوعية على كل شيء تقريبا». ولكن كيف يمكن الاستفادة من الكنوز المتبقية من آداب «الحميادو» اليوم؟ الدكتور محمد هوكوفيتش يرى أن «الاستفادة ممكنة بإعادة كتابتها بالحروف اللاتينية لأن الأجيال الجديدة لم تعد تفهمها.. وذلك بانتظار زمن جميل تتواصل فيه حلقات التاريخ والثقافة والحضارة العالمية الخالدة، وتقوم مؤسسة النهضة الإسلامية بإعادة تحقيق كثير من موضوعاتها وإعادة طباعة المفيد منها». ويعتبر البعض أنه لا بد أن يسجل للدكتور محمد هوكوفيتش الفضل في جعل أدب «الحميادو» مادة دراسية في المعاهد الثانوية البوسنية، وذلك بعد صراع مرير مع أعداء التاريخ والتعدد الثقافي ومستقبل الهوية. والجدير بالذكر أن عنوان رسالته للدكتوراه هو «الحميادو ومؤسسوها»، وقد تلاها إصداره كتاب «مختارات من أدب الحميادو» وكتاب «هبوب الرياح على أزهار القصب» وكثير من المقالات في هذا الحقل. وقد بلغ عدد الكتب التي ألفها هوكوفيتش عن «الحميادو» وآدابها 10 كتب. وهو يقول إن من أهم رموز «الحميادو» في مختلف الآداب والفنون: حسن كليميا ومصطفى بانساسكي وعبد الوهاب إلهامي وعبد الرحمن السوري وميهاما تشوفيدينا وعمر هومو بجانب آخرين.