الأم الطالبة.. متهمة بالتقصير العائلي إلى أن تثبت العكس

مهمة مزدوجة تتطلب تضحيات من المرأة ودعما من الزوج

الأم الطالبة ومهمة مزدوجة تتطلب التضحيات («الشرق الأوسط»)
TT

ترفع بعض الأمهات شعار «العلم في الكبر كالنقش في الحجر» ويمضين في مسيرتهن العلمية بعد انقطاع قد يستمر سنوات. هذا الواقع الذي تزيد وتيرته في المجتمع اللبناني بعدما صار من الصعب على من لا تحمل شهادة جامعية أن تجد لها مكانا في الوسط المهني، يُدخل المرأة في تحدٍّ مع ذاتها ومع المجتمع، قد تنجح في تحقيقه أو تفشل، لتترتب على هذه النتيجة آثار عائلية تتراوح بين الإيجابية والسلبية، وإن رجحت كفة الأولى على الثانية في معظم الأحيان، لا سيما في ما يتعلق بحياتها الشخصية. أما حياتها العائلية فتبقى مرتبطة بدور الأم وكيفية تأقلمها مع الوضع الجديد وتحمل الأعباء التي تنتج عن الازدواجية في مهماتها اليومية التي تتراوح بين الدراسة وتدريس الأولاد وتربيتهم والقيام بالأعمال المنزلية. هذا هو الواقع الذي تزيد وتيرته في هذه الأيام.

أحبت رانيا وتزوجت في سن الـ21، أنجبت طفلها الأول بعد سنة من الزواج، فرحت بالحياة الجديدة وملأ عليها طفلها أوقاتها لفترة لم تتجاوز السنة، إلى أن بدأت تعي الخطأ الذي ارتكبته عندما تركت الجامعة وهي في السنة الثانية من دراسة اللغة العربية. لمس زوجها الفراغ الذي كانت تشعر به، فما كان منه إلا أن شجعها على معاودة الدراسة وأخذ على عاتقه مهمة تسديد النفقات. تقول رانيا: «دعم زوجي لي شجعني على إكمال دراستي، رغم أنه ليس حاصلا على شهادة جامعية. لكن لم يكن لديه أي مشكلة، بل على العكس، كان الداعم الأول والأخير لي، على الرغم من كل ما كنت أسمعه من عائلته وعائلتي اللتين كانتا دائما تنتقدانني وتعتبران أنني غير قادرة على الإيفاء بالمهمتين معا. وفي فترة الامتحانات كنت أحرص على أن لا يشعر زوجي بأي تقصير تجاه البيت أو الأولاد، وكنت أنتظر لينام في الليل حتى أدرس.

لكن بعدما أكملت الدراسة وحصلت على الشهادة قدر الجميع ما قمت به. وها أنا اليوم أعمل معلمة في إحدى المدارس. وأشعر بفخر لما وصلت إليه، رغم أنني شعرت أن السنوات الأربع كانت طويلة وتطلبت مني جهدا كبيرا».

تعتبر مي السبع، الدكتورة في علم الاجتماع، أن إقدام الأم على إكمال دراستها الجامعية يعود إلى أسباب عدة، إما لأنها وعت الخطأ الذي ارتكبته بتوقفها عن الدراسة، وإما لأنها لمست الفرق التعليمي بينها وبين صديقاتها أو زوجها، وإما أنها منحت اهتمامها ووقتها لتربية أولادها وانتظرت تخرجهم حتى تتفرغ لنفسها. لكن بمجرد اتخاذها هذا القرار تقع عليها مسؤولية إدارة ما أقدمت عليه والتنسيق بين متطلبات العائلة والدراسة، خصوصا أن المرأة هنا تبقى في نظر المجتمع وحتى زوجها، وإن منحها دعمه، في موقع المتهم بالتقصير حتى تثبت براءتها». وتستطرد: «هذا الاتهام نابع من اعتبار المجتمع أن الأم مهما بذلت جهدا فسوف تبقى مقصرة تجاه عائلتها. ودعم زوجها لها لا يعدو كونه معنويا وتشجيعا لا يحل مشكلة الضغط الذي تعيشه المرأة، إذ تقع عليها مهمة إيجاد الحلول للنجاح في ما تقوم به». وترى السبع أن «تفوق المرأة على الرجل علميا سينعكس بالتأكيد على علاقتهما في ما بعد، إذ ستصل إلى مرحلة تشعر بها أن هناك فراغا ما في التواصل بين الطرفين، وهنا عليها أن تتفادى الأمر، وتعمل هي أيضا على التعامل معه بطريقة دبلوماسية بعيدا عن التشنج، كي تشعره بالراحة النفسية والمعنوية، لتفادي أي مشكلات قد تحصل بينهما».

ريما (35 عاما)، كان قد اشترط عليها والدها حتى يرضى بزواجها أن تتعهد له بإكمال دراستها الجامعية، لكن بعد الزواج ظهرت أمور كثيرة كانت غائبة عن الحسابات. البداية كانت مع الحمل، وهنا جاء اعتراض الأب الذي «هز العصا» لريما وزوجها مطالبهما بالإيفاء بوعديهما، فما كان على الزوج الذي كان يتمنى أن يحصل على شهادة الدكتوراه ولم يتمكن من ذلك، إلا أن ذهب إلى الجامعة بنفسه وسجل زوجته ليكمل دعمه لها طوال السنوات التي تلت، من الحصول على الشهادة الجامعية إلى التحضير لشهادة الدكتوراه. بعد ولادة ابنتها الكبرى، استمرت ريما في طريقها متجاوزة العوائق، لا سيما أنها كانت تعمل معلمة في مدرسة رسمية وتدرس وترعى طفلتها في الوقت عينه. اجتازت السنة الأولى والثانية ووصلت إلى الثالثة وهي في طريقها لاستقبال الولد الثاني. جاء موعد ولادتها قبل شهر من موعد الامتحانات التي كانت تشغل كل تفكيرها. تقول: «كان همي الأول والأخير أن أنجح في القرار الذي اتخذته. حملت كتبي في حقيبة جهاز الطفل وذهبت إلى المستشفى. خلال الولادة كنت أدعو الله أن يساعدني على النجاح، لأنني كنت أسمع أن دعاء الأم في أثناء الولادة مستجاب».

بعد شهر دخلت ريما الامتحانات التي درست لها خلال الفترة التي كان يفترض أن تكون عطلة أمومة حين كانت تحمل طفلها بيد لتطعمه والكتاب في اليد الأخرى. وتضيف: «في فترة الامتحانات كان زوجي يذهب معي وينتظرني في السيارة مع ابنتي، وأذكر في إحدى المرات أنني خلال إنجازي الامتحان كنت أسمع صوت ابنتي تبكي من الجوع في السيارة، فصرت بدوري أبكي، عندها سمح لي الأستاذ بالخروج لدقائق معدودة لإرضاعها، ثم عدت وأكملت الامتحان». وتستطرد: «هذه ليست إلا ذكريات لكل ما عانيته في سبيل التنسيق بين الأمومة والدراسة، لكنني بالتأكيد لست نادمة بتاتا على ما قمت به، على الرغم من أنني في إحدى المرات رميت الكتاب وقلت إنني لن أكمل. لكن زوجي خفف عني وأكد لي أن نتيجة تعبي ستكون النجاح». وتقول: «بشكل عام لا يميل الرجل إلى أن تكون زوجته متقدمة عليه أو متفوقة عليه، وعندما يدعمها فهذا يعني أنه يريد استثمار هذا النجاح لنفسه. وبالتالي ليقال إن زوجة فلان ناجحة ويتفاخر بها أمام المجتمع، وإن نجاحها يعود إليه شخصيا، إذ لو لم يدعمها ويسمح لها فلن تصل يوما إلى ما وصلت إليه».

بعد حصولها على الشهادة الجامعية شخصت عينا ريما إلى شهادة الماجستير، وأنهتها في سنة واحدة بتشجيع من زوجها الذي يعمل صحافيا، فيهتم بالأولاد خلال النهار قبل أن يذهب إلى عمله ليلا، لتستغل ريما الفرصة وتتفرغ للدراسة.

واليوم، بعدما صارت ابنتها في سن الـ13 وابنها في سن الـ10 سنوات، أصبحا قادرين على تقدير تضحيات أمهما وما وصلت إليه. تقول ابنتها فيرا لها: «أريد أن أكون مثلك عندما أكبر، سأتزوج وأكمل تعليمي». أما ابنها قاسم، ورغم تعبيره عن فخره بأمه، فقد كان همه الأكبر أن يعود من المدرسة ويجد أمه في البيت، وأن يمضي يوم العطلة معها، لذا كان يحرص على سؤالها في كل يوم عطلة إذا كان لديها عمل في المدرسة الرسمية أو الخاصة أو معهد التدريب حيث تعمل أو الجامعة حيث تدرس. والأهم أن التوتر الذي كان يرافق ريما خلال فترة الدراسة والامتحانات كان ينسحب على أولادها الذين يقومون بدور المحفز لها، ويسألونها عن نتائجها ودراستها وامتحاناتها، حتى إنهم في بعض الأحيان يمنعونها من مشاهدة التلفاز! وتعلق ريما على سر نجاحها في الدراسة والعمل والأسرة فتقول: «أهم ما في الأمر هو القدرة على التنسيق وتوزيع الوقت ودعم زوجي وأولادي، إضافة إلى القدرة على تحمل الأعباء وتجاوزها وعدم اليأس».