سكاكين جزين اللبنانية أعجب بها ديغول وشكلت «مزراب» ذهب لأبنائها

صناعتها بدأت بالصدفة عندما كانت القرية مكونة من قسمين يفصل بينهما نهر صغير

ما عاشه الجنوب اللبناني على مر العقود الأربعة الماضية من حروب ومعارك أثر سلباً على الحرفة الجزينية ولم تكن الأزمة الاقتصادية بأقل تأثيرا
TT

من يقصد مدينة «جزين» في جنوب لبنان، أو «عروس الشلال»، كما يسميها اللبنانيون نسبة إلى شلالها الشهير الذي يتدفق بالمياه العذبة، أول ما تطالعه في واجهات محلاتها «السكاكين الجزينية» بمقابضها المطعمة بالعاج والذهب الخالص، والعظم الملون، ورسومها المتنوعة، وتقنياتها المتميزة. ولا يمكن لأي زائر لهذه المدينة الجبلية التي ترتفع 1200م على سطح البحر، سواء كان مواطناً أو سائحاً، إلا أن يحمل «التذكارات» التي اشتهر بها أبناء المدينة منذ عام 1770 وما زالوا يحافظون عليها برموش العينين، حتى إن الرئيس الفرنسي شارل ديغول كان معجباً للغاية بهذه الحرفة، ما دفع الرئيس اللبناني فؤاد شهاب إلى إهدائه مجموعة منها.

ويروي أبناء المدينة أن صناعة السكاكين بدأت بطريقة المصادفة عندما كانت جزين قسمين يفصل بينهما نهر صغير كان يرتاده الجزينيون ورعاة الماشية للتفيؤ تحت أشجاره الظليلة التي يستوطنها الطير، الذي كان مصدر وحي لطالبي الراحة والنزهة، فراحوا يحفرون على الخشب أشكال الطيور ثم يستعملونه مقابض للسكاكين التي كانت تتخذ شكل عصفور أو بطة أو سمكة، ثم راح الجزينيون يتناقلون الحرفة ويتنافسون في تطويرها شكلا ومضمونا، حتى باتت نجم الصناعات اليدوية الأخرى كأدوات المطبخ من ملاعق وشوك، فضلاً عن السيوف والخناجر التي انتشر صيتها في الداخل والخارج، وأدوات الزينة النسائية وأدوات المكتب وعلب السجائر وعلاّقة المفاتيح.

ولا شك في أن ما عاشه الجنوب اللبناني على مر العقود الأربعة الماضية، من حروب ومعارك، أثر سلباً على الحرفة الجزينية ولم تكن الأزمة الاقتصادية بأقل تأثيراً، ما دفع مجموعة من حرفيي المدينة إلى تأسيس «التعاونية الحرفية للصناعات الجزينية» بدعم إيطالي على مستويي تقديم المواد الأولية وتنظيم الدورات التدريبية. ويقول أحد المسؤولين في هذه التعاونية «إن الهدف من إنشائها هو الحفاظ على تراثنا وحرفنا والعمل على تطويرها ولتعود وتشكل مجدداً «مزراب ذهب» للعاملين فيها كما كانت في الزمن الغابر. وستركز التعاونية على التوسع في تسويق الحرفة الجزينية داخل لبنان وخارجه».

وعند الحديث عن سكاكين جزين يتبادر إلى الذهن فوراً «شيخ الحرفيين» ذو «السكسوكة» البيضاء، وحامل الحرفة على كتفيه أباً عن جد وجد الجد، عنيت به سمير الحداد الذي أخذ الحرفة عن والده سعيد، الذي ورثها بدوره عن والده الفريد، والأخير عن والده حبيب، ثم جبور وصولا إلى جد الجد حبيب الحداد.

وإذا قدر لك أن تزور سمير في منزله، فلا بد من أن تعتبر نفسك أمام فنان أكثر منه حرفياً تقليدياً، لما ترك على شرفاته من بصمات وابتكارات فكيف بما تركت يداه من مصنوعاتها من فن وجمالية.

ويروي «المعلم سمير» قصة أول سكين صنعها وهو في الثامنة من عمره، عندما سقطت طائرة حربية في وادي جزين أيام الحرب العالمية الثانية، «فما كان مني إلا أن أسرعت كالطائرة إلى مكان السقوط للتفرج والتأمل. وفي اليوم التالي قصدت إلى المكان نفسه، حيث بدأت بتفكيك ما أقوى عليه من زجاج وحديد وألومنيوم، وقد استعنت بما لدى والدي من معدات في غياب المفاتيح والمفكات، ولكن غبطتي نغصها عليّ والدي الذي «فقعني قتلة من كعب الدست» بسبب هذه المغامرة غير المضمونة بنظره. ومع ذلك تمكنت من صنع سكين ذات ثلاث شفرات ومبرد أظافر من زجاج الطائرة، واستعنت بمادة «الاسيتون» اللاصقة لإعطاء الشفرات سماكة معينة، وبعد إنجاز باكورتي الأولى بعتها لسيدة انجليزية قبضت ثمنها 50 ليرة وذرفت عليها 50 دمعة».

ولم يشأ «المعلم سمير» أن يفصل بين بيته ومحترفه. بل جعل من منزله محترفه الدائم. كل المنزل بطبقاته السفلى والعليا، وحتى على السطح، ويبرر ذلك بالقول: «أنا حريص دوماً على أن أسهر على عملي وأتابعه، وكثيراً ما يسرق مني بعض أوقات الليل». ولأنه لا يخشى المنافسة لا يتوانى عن تعميم الحرفة للراغبين وقد تجاوز عدد المتدربين على يديه حتى الآن 150 شخصاً «وكل واحد يأكل رزقه» كما يقول، وهو بلغ من تعلق بالحرفة حد «اختراع» آلات وماكينات صناعية «لتحل محل الأيدي الماهرة التي عز وجودها»، على حد قوله. ويضيف: «لقد صنعت بنفسي مبرداً على ذوقي أخذت منه كل ما أستطيع، ولم أكتف بما يستطيع هو أن يعطيني وقس على ذلك، حتى إنني كنت أهمل أي شيء أصنعه ولا يلبي رغبتي وطموحي».

والحديث عن سمير الحداد في جزين يذكر أبناءها بسيف «ذو الفقار» (اسم سيف الإمام علي بن أبي طالب) الذي صنعه بنفسه من الفولاذ المطعم بالذهب والعاج والعظم الملون، والذي تجاوز طوله المتر وعرض قبضته 20 سنتيمتراً، ووزنه 5 كيلوغرامات، ومن يقف أمامه سيدهش لرؤية وجهه جلياً نقياً من دون تموجات. وقد استغرق صنعه 6 أشهر على صوت أم كلثوم الرخيم.

وإذ يحدثك «أبو أنطوان» عن السكاكين تحسبه يتحدث عن حبيبات، لكن هذا الحب لا يقف عند أعتاب المحترف، بل يدخل إلى قلب المنزل حيث الحبيبة الحقيقية التي لا ينفك يمطرها بالكلام الغزلي المنمق. ولعل الهاجس الوحيد عند «المعلم» هو أن يمتلك أبناؤه وأحفاده الحرفة ويحافظوا عليها «لأن من يبدع فيها يستطيع أن يعتاش منها، ومن يريدها من باب اللهو والتسلية، فالأفضل أن يتركها لأصحابها».